تشابهت قصص اختفاء الصحفيين، واختلف المكان والزمان. صحفي مصري يختفي في دقائق قبل صعوده إلى شقته منذ 15 عامًا، وآخر دخل قنصلية بلاده بإسطنبول، ولم يخرج منها!
يوم 11 أغسطس عام 2003، غادر رجل يرتدي بدلة أنيقة مبنى الأهرام (محل عمله) في الثالثة والنصف عصرًا، متجهًا إلى شارع قصر العيني، مرورًا بالكورنيش والسفارة الأمريكية، ليلتقي بعض معارفه، قبل أن يتجه إلى محل سكنه بالعقار رقم 34 بشارع إسماعيل سري المتفرع من شارع قصر العيني الثامنة مساءً.
في هذا التوقيت، كان الصحفى رضا هلال، الذي كان يشغل منصب مدير تحرير جريدة الأهرام، يقف أمام الأسانسير، بعدما طلب وجبة عشاء من مطعم شهير في نفس الشارع. 20 دقيقة بالضبط استغرقها عامل المطعم للوصول إلى العنوان الذى أملاه صاحب الطلب.
صعد عامل التوصيل إلى العنوان، وظل يطرق على الباب، ولا مجيب، هبط إلى حارس العقار ليسأله: أين صاحب الشقة بالدور الخامس؟ فأجاب الحارس: صعد منذ دقائق.. كرر العامل السؤال، فأعاد الحارس الإجابة، ليختفي الصحفي خلال دقائق.انشغلت الصحف المحلية بالبحث في لغز اختفاء هلال، وتعددت الروايات وفقًا لتعدد شبكات معارف
صعد عامل التوصيل إلى العنوان، وظل يطرق على الباب، ولا مجيب، هبط إلى حارس العقار ليسأله: أين صاحب الشقة بالدور الخامس؟ فأجاب الحارس: صعد منذ دقائق.. كرر العامل السؤال، فأعاد الحارس الإجابة، ليختفي الصحفي خلال دقائق.
انشغلت الصحف المحلية بالبحث في لغز اختفاء هلال، وتعددت الروايات وفقًا لتعدد شبكات معارف الصحفي المختفى، أبرزهم علاقته بالسفارة الأمريكية، التي كانت شاهدة على تعدد أسفاره في الفترة التي سبقت اختفائه، ثم ظهرت روايات وسيناريوهات أخرى متضاربة، تعزز أسباب تبخر صحفي كبير يشغل منصبًا كبيرًا في أكبر الجرائد بالعالم العربي.
كثرت الأقاويل، وتولّدت عنها شائعات، وقصص خرافية، وهنا اختفت الأصوات العاقلة، التي كان من المفترض أن تظهر، وتطالب بالكشف عن مصير زميلها المختفي. انشغل الجميع بالبحث والتحري في سلوك الزميل، بعيدًا عن المطالبة بسلامته والحفاظ على أمنه، كان الجميع ينبش في ماضيه، ويحاول الربط بين تحركاته في الفترة الأخيرة، وما آل إليه مصيره الغامض!
أزمة تبخر رضا هلال كانت أننا ولأول مرة أمام لغز وجريمة اختفاء صحفي شهير، وكان معروفًا في ذلك الوقت طرق التخلص من المشاكسين أو من يقفون على يسار النظام، إما بالسجن وإما بالملاحقة القضائية، والدخول في دوامة الدفاع عن النفس.
شكَّلت واقعة رضا هلال حلقة من حلقات رفض أنظمة العالم الثالث دور الصحافة في البحث وكشف الحقائق، وأكدت -بغض النظر عن الشخص- أن حرية الصحافة لا تنمو أو تزدهر في بيئة قمعية متسلطة.
بعد خمسة عشر عامًا، كان العالم العربي على موعد جديد مع الإثارة. فيلم رعب مكتمل، بطله هذه المرة، صحفي وكاتب عامود في واحدة من أهم صحف العالم، صراحة لم يكن بطل الفيلم الجديد، بل كان الضحية.
اقرأ أيضًا.. هل سجلت ساعة «آبل» لحظة اغتيال خاشقجي؟
المشهد الأول في الفيلم كان يوم 2 أكتوبر الجاري أمام القنصلية السعودية في إسطنبول.
مشهد خارجي: يقف رجل ستيني بجوار امرأة في منتصف الثلاثينيات، يتجاذبان أطراف الحديث، يٌخرج الرجل من جيبه هاتفه المحمول، ثم يمضي في اتجاه القنصلية السعودية.
مشهد داخلي: داخل القنصلية لا أحد يعرف على وجه الدقة ما حدث للصحفي السعودي البارز جمال خاشقجي.
بعد ثلاث ساعات تُبلغ المرأة الواقفة في انتظار خاشقجي، السلطات التركية، بأن خطيبها دخل القنصلية ولم يعد.
اختفى خاشقجي مثلما تبخر هلال. لكن تداعيات الاختفاء الأخير كانت أكبر من مجرد كاتب يقف على طرفي نقيض من السلطة، لتتحول إلى مزاد كبير للمتاجرة بدمه والرقص على جثته، التي لا يعرف أحد أين هي. ومع اختفاء جسد الصحفي السعودي، تبخر السؤال: ماذا ينتظر الصحفيون؟
اقرأ أيضًا.. اتحاد الصحفيين الـعـرب يسأل: أين جمال خاشـقـجي؟
إجابة هذا السؤال ربما كانت حاضرة في إسطنبول، مسرح الجريمة، لكن ظلالها امتدت إلى عواصم ودول أخرى وجدت في المأساة فرصة لتصفية حسابات سياسية وتلاسن دبلوماسي والترويج لأيديولوجيات، وهو ما قفزت عليه جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية.
وسط كل هذا ومع اختفاء جسد خاشقجي، توارى الحديث عن ضمانات عمل الصحفيين في دول العالم الثالث، كيف يؤدي الصحفي عمله، ويقوم بمهامه وآلة القتل تلاحقه؟
اقرأ أيضًا.. هل يحق لتركيا اقتحام قنصلية الرياض بحثا عن «خاشقجي»؟
إذن، ما الرابط بين جريمة تبخر هلال واختفاء خاشقجي؟
في السنوات الخمس الأخيرة بدأت الصحافة رحلتها المحفوفة بالمخاطر للبقاء بين يدي القارئ، والوقوف أمام غول السوشيال ميديا، الذي أضحى بديلًا سهلًا ومتعجلًا لنقل الأخبار، وفي رحلة الصمود المهني أمام تغييرات تكنولوجية هائلة، كانت توجه طعنات مستمرة -في الخفاء- إلى الصحافة والقائمين عليها والعاملين فيها، على هيئة قوانين مكبلة للحريات، ومطاردات قضائية للصحفيين، وجرجرة في ساحات المحاكم. ورغم هذا ظلت المهنة تحاول إيجاد أي متنفس في هذا الجو الملبد بالكراهية والترصد من جانب أنظمة العالم الثالث.
اقرأ أيضًا.. ترامب: عقاب شديد للسعودية إذا ثبت أنها قتلت خاشقجي
لكن أزمة جمال خاشقجي ومن بعدها الصحفية البلغارية فيكتوريا مارينوفا، التي قتلت قبل أيام بسبب تحقيقاتها عن شبهة فساد في الاتحاد الأوروبي -ومن قبلهما رضا هلال- يضع الصحافة والصحفيين جميعًا أمام اختبار صعب، وتحد جديد في طريق بحثهم عن الحقيقة، وكشف الفساد والانتهاكات، التي لا تتوقف من جانب الأنظمة القمعية ضد المعارضين أو المخالفين لها في الرأي.
اقرأ أيضًا.. لماذا يجب أن يأمل بن سلمان في ظهور «خاشقجي»؟
إن اختفاء خاشقجي، وما يثار عن قتله وتصفيته، لهو المؤشر الأخطر، الذي يجب أن يقف جموع العاملين في وسائل الإعلام أمامه على اختلاف توجهاتهم، فالكلمة يرد عليها بالكلمة، والمقال يقارعه مقال، لكن أن تتحوّل الصحافة وملاحقة الفاسدين، إلى جريمة يُقتص من صاحبها في الخفاء وبدم بارد، فهذا يعني أننا أمام حقبة جديدة ملطخة بدماء ضحايا أرادوا حياة أفضل لشعوب ترزح تحت وطأة الاستبداد.
الصحافة ليست جريمة.