ملحمة «الحرافيش» الفذة
علاء خالد
٣٠ يناير ٢٠١٩ - ١٢:١٢ م
يفتتح نجيب محفوظ ملحمته "الحرافيش" بهذه العبارة الشعرية ليطرح طبيعة عالم الصراع الذي يدور في الحارة: "في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا".
***
تنقسم حارة الحرافيش بين الحياة اليومية المادية الممثلة في البيوت والخمارة والدكاكين والوكالات، والحياة الروحية الممثلة في الزاوية والتكية. بين الغريزة والروح، كأن لها عضوية الإنسان الذي يعيش فيها.
***
تبدأ الحكاية بميلاد عاشور الناجي الطفل اللقيط، الذي عثر عليه في الممر بين الحياة والموت.
***
تنقسم حارة الحرافيش بين الحياة اليومية المادية الممثلة في البيوت والخمارة والدكاكين والوكالات، والحياة الروحية الممثلة في الزاوية والتكية. بين الغريزة والروح، كأن لها عضوية الإنسان الذي يعيش فيها.
***
تبدأ الحكاية بميلاد عاشور الناجي الطفل اللقيط، الذي عثر عليه في الممر بين الحياة والموت. ومعه بداية التأريخ للحارة داخل الرواية. ربما اختيار أن يكون عاشور الناجي لقيطا، ليتم التشكيك دائما في أصل السلطة.
***
يهتم نجيب محفوظ في روايته الفذة "الحرافيش" بمناقشة مفهوم "القوة" أو "السلطة"، وتحولاتها في مصر بين القرنين التاسع عشر والعشرين. الحارة هي العالم الذي يناقش فيها محفوظ هذه المعضلة الإنسانية. القوة التي تسيطرعلى الحارة هي مؤسسة "الفتونة"، أو قوة "الفتوة" الذي يقوم بحمايتها، أي القوة الطبيعية للإنسان الفرد، قبل دخول القوة المنظمة أو "السلطة" التي تتمثل في الدولة. تاريخ الرواية يرصد، بطريقته، فترة تأرجح ما بين قوة الفرد وقوة الدولة.
***
في عالم حارة "الحرافيش" من يسيطر، وتكون له السلطة، هو الأقوى بدنيا، الذي يُدعى "الفتوة "، كونه بمساعدة آخرين، يقوم بحماية الحارة من بطش الحارات الأخرى، نظير إتاوات، وهي الوظيفة التي تجسد سلطة الدولة في حالتها البدائية. وربما اختيار محفوظ للحارة كمكان رمزي لمناقشة مسألة السلطة، كونها المكان القديم ما قبل نشوء المدينة، وتتجمع بداخله كل أشكال السلطات والقوى الطبيعية.
***
تحوي الحارة، التي هي نظير الدولة، في أحد أوجهها، ونظير العالم في أوجه أخرى؛ طبقتين أساسيتين، طبقة التجار والأعيان وطبقة الحرافيش أو بمعنى أصح: الأغنياء والفقراء جنبا إلى جنب. وهنا يظهر دور القوة/ السلطة، ومدى تذبذبها بين هذين القطبين الأزليين. هنا يظهر حلم الروائي بإقامة "العدل" بانحياز القوة لصف الفقراء، ليس على طول الخط، لكن يظل هذا الحلم كامنا في الحكايات العشر للحرافيش، برغم عدم تحققه بل استحالته.
***
أحيانا كانت القوة/ السلطة تقف في صف الفقراء، كون الفتوات يأتون من هذه الطبقة المهمشة التي لا تملك غير هذا النوع من القوة. أحيانا كانت القسمة عادلة بين القوة والمال، لذا لا يتجرأ المال ويبطش بالنفوس، كون القوة حارسة لمجموعة من قيم الزهد والإخلاص. "القوة العادلة" عند نجيب محفوظ لها جانب صوفي، وأحيانا تأخذ مفهوم "المستبد العادل"، عندما يريد أن يجمع بين العدل والقوة في آن، فتتشرب القوة بأخطاء الاستبداد.
***
انحراف القوة، واستخدام الظلم، جزء من تطور مفهوم القوة. فالقوة تقترن بسوء استخدامها، وأحيانا تسير بحسن نية، فتفقد مهابتها، فهذه القوة/ السلطة تحتاج دوما لمن يسندها. أحيانا الشعب/ الحرافيش يكون هو المساند، وأحيانا المال. وأحيانا يكون لها قوة ذاتية مرتبطة بإيمان صاحبها بها مثل عاشور الناجي الحفيد في الحكاية العاشرة والأخيرة في "الحرافيش"، الذي أراد أن يؤسس حارة مثالية مثل جده، لتعود السلطة للحرافيش.
***
غاية حكاية القوة/ السلطة، بالنسبة لنجيب محفوظ: أن يسود مفهوم العدل ويعود للحرافيش مكانتهم، هؤلاء الذين لا يملكون أي نوع من السلطة لأنهم فقراء. بهذه النهاية أو الأمل الإعجازي أيضا يظهر داخل ملحمة "الحرافيش" استحالة تحقق هذا الأمل. داخل الرواية هناك صراع، بين هذا الأمل المثالي، ونقيضه تماما، وتبدو الحقيقة جلية بأن من الصعب انحياز القوة للعدل، كون هذه النزعة الفردية المسماة القوة/ السلطة توجه من يحوزها باتجاه السيطرة وحب المال، وهو ما يؤدي بسحب الجانب الصوفي في القوة، الذي يرجحه نجيب محفوظ، ويُستبدل بجانب مادي يؤدي إلى اختلال ميزان العدالة، وتصبح القوة غشيمة في بطشها.
***
حرافيش الرواية يمكن أيضا أن يكونوا حرافيش رمزيين، يعبرون عن كل الذين جردوا من قوتهم وحقهم الطبيعي في الحياة، بفعل الفقر، الذي هو فعل غير طبيعي، يتولد من صراع إرادات، وتغلُّب إحداها على الأخرى، واستيلاء إحداها على ثروة الأخرى، وهو بداية نشأة الفكر المؤسسي، أو الدولة، الذي يقوم على تأميم هذه النزعات الفردية لصالحها.
***
بزغت حارة "الحرافيش" من العدم، فلها شكل ثابت طوال الرواية، وصراع متوازن ومستمر بين القوة والمال، وتتأرجح الفتونة فيها، ما بين الروحانية والمادية. وربما هذا التوجه هو ما يحفظ توازنها، وهو أيضا ما يحفظ توازن الرواية ومفهوم الجدل عن نجيب محفوظ بين أشكال عدة من القوة.
***
هناك مفاهيم رمزية أخرى تتصارع داخل الرواية، منها "نقاء الأصل". هناك سلسلة من الأبناء يتوارثون الفتونة وحلم العدالة الذي اندمج مع القوة في هذا الأصل النقي لجدهم الكبير (عاشور الناجي) بطل الرواية الغائب. هناك دائما تساؤل حول "أصل" السلطة أو مشروعيتها. لذا هناك تساؤل حول فكرة الأصل ومدى أهميته في رصد انحراف/ عدالة السلطة.
***
هناك عنصر فاعل آخر داخل "الحرافيش" وهو "الغياب". عندما يغيب عاشور الناجي الفتوة الأول في الرواية ومؤسس السلطة على العدل، يكتسب قوة بهذا الغياب أيضا، تتوارثها مخيلة الأبناء. كأن السلطة ليست فقط في حضورها، ولكن أيضا في الغياب تكتسب قوة وتتحول لسلطة روحية، ومثل ونموذج.
حالة "الغياب" لها أصول تاريخية، كالإمام الغائب عند الشيعة. كل غائب له قداسة، ومن يغيب ربما يعود، والأغلب أنه لا يعود، عندها يتحول إلى أسطورة مثل عاشور الناجي الأب الكبير للحارة، لأنه الوحيد، مع عائلته، الذي نجا من شوطة الكوليرا التي أماتت أغلب ناس الحارة، لذا سمي "الناجي".
***
"عاشور الناجي" هو الملهم لكل أبنائه وأحفاده، والمُختلف عليه أيضا، كأنه بذرة السؤال، أو أصله. فغياب، عاشور الناجي، وليس موته، أحيا سؤال "الأصل"، " لأن "الأصل" لا يموت. فلو مات عاشور الناجي، فعندها ستموت حكاية/ أسطورة "العدل" التي أرساها وسعى لها.
الغياب يحتمل الموت والحياة معا، لا يسلب من صاحبه القوة. من مات جُرِّد من قوته المادية، أما من غاب، فما زال يحمل القوة والإلهام لغيره، لأنه يمكن أن يعود. فعاشور الناجي في الرواية رمز لهذه القوة الخام، القوة الطبيعية التي بدأت تتغير مع دخول الآلة وعصر الصناعة.
***
هناك عدة سمات هامة يتسم بها نجيب محفوظ في رواياته، تضافرت بقوة وبهارمونية في هذا العمل الفذ متعدد الجوانب والتأويل: تضافر الحس الفلسفي مع الحس الشعري مع الحس الأسطوري غير المفتعل، مع الاهتمام القاموسي بالمفردات. هناك تسام للحس الفلسفي ناحية الحس الشعري ومنه للحس الأسطوري، لتتكون في النهاية صياغات وإشراقات روحية ونماذج بشرية في غاية القوة والرقة. أيضا خضوع الحكاية الصغيرة للحكاية الكبيرة. مع حضور راوٍ، جزء من أهل الحارة، يقف في مكان ما من الأحداث، ويروي عندما يتوقف أبطال العمل عن الحكي، وأحيانا يأخذ صوت الروائي.
***
أيضا، في الرواية، هناك تتبع تاريخي وروحي لكل أبطال العمل. قصة كل فرد عبارة عن حكاية طويلة، لها فقرات ومحطات. لا توجد عند نجيب محفوظ حكاية صغيرة، ولكن حكاية أجيال، حتى ولو شغلت عدة سطور أو عدة صفحات. هنا يظهر هذا الهيكل الذي يغزل عليه نجيب محفوظ روايته: أن الفرد جزء من سلسلة تاريخية طويلة، وكشف فقرات هذه السلسلة هو الذي يمنح لهذا للفرد تميزه أو حكايته، فالفرد جزء من تاريخ وليس هو صانعه، لذا تتأكد هذه "القدرية" التي تسم هذا العمل. يظهر مفهوم للفردية مرتبط بالدين، عبر التسليم لهذه القدرية التي تحرك كل شيء. وأيضا الشكل المادي لهذه السلسلة التاريخية يقودنا دوما للأصل، للبداية، حيث يقف عاشور الناجي، الذي خرجت منه أسئلة الحياة، وحكاية العدالة والقوة في الحارة.
***
الحس الأسطوري طبيعي جدا عند نجيب محفوظ، ربما لأنه يؤرخ دوما لزمن البدايات، الأصول، لذا تظهر هذه الثنائيات الكامنة في أزمنة البدايات البريئة: كالخير والشر، قبل أن تتحول لمفاهيم اجتماعية. هناك عدة ثنائيات متصارعة تخلق هذا الجو الملحمي الذي يسيطر على الرواية كالمعاناة والمسرات، الحياة والموت. هناك شيء أكبر من الإنسان الذي يقف بين هذه الثنائيات كأداة حائرة. ربما لسان حال نجيب محفوظ يقول: لأننا نموت، فنحن نعيش داخل أسطورة الحياة. فالحياة أسطورة، شيء ما فوق طبيعي، لأن الموت يقف قريبا منا بالمرصاد. لذا الموت عند نجيب محفوظ ليس نهاية فقط، بل جزء أساسي من العمل الروائي.
***
أهمية هذه السلسلة الروائية، التي ينتهجها نجيب محفوظ، تتبع حكايات الجد ثم الابن ثم الحفيد وهكذا؛ أن لها بداية ونهاية، وهما عنصرا الحكاية الكلاسيكيان. فاختيار هذا الشكل للسرد، يعنى أن هيكل الحكاية جاهز، وما سيأتي هو زج أبطالها بين بداية ونهاية تكادان تكونان معروفتين: الحياة والموت، فالحكاية ليست حكاية تفاصيل، بل أكبر من هذا، إنها حكاية مفهوم.
***
الغياب، الذي يحدث لأحد أبطال هذه السلسلة الروائية، ربما يسبب فراغا في إحدى حلقاتها، وربما هذا يسبب قطعا في التسلسل. ولمداواة هذا القطع فكل غائب يتحول لأسطورة مقدسة، تشغل هذا الجزء الفارغ وغير المعروف نهاياته. أبطال "الحرافيش" تحولوا لأشخاص مقدسة بفعل هذا الغياب، بفعل هذا القطع في تاريخهم. فالسلسلة الروائية تتكون من نهايات معروفة ونهايات فارغة ومؤجلة، تدخل في سياق زمن أكبر، وهو ما يوحي في العمل بالملحمية، ليس فقط نشوء شيء من العدم، أو تتبع حكاية القوة/ السلطة في عدة أجيال، ولكن أيضا بارتباطه القوي، بعالم غير مرئي، يتبادل معه الحضور والغياب.
***
لم تنقطع سلسلة الحكاية بغياب أحدهم، ولكن أصبحت مضفرة بحضور مرئي وآخر غير مرئي، بزمن واقعي، وآخر ما فوق واقعي. وربما تعمد نجيب محفوظ خلط الزمنين والعالمين، وحضورهما داخل الحارة التي ما زالت خارج نطاق الآلية والحداثة.