كان يا «زمكان»
٠٢ فبراير ٢٠١٩ - ٠٢:٢٩ م
ميدان العتبة
عندما انفجر المكوك الفضائى الذى كنت على متنه فى مهمة سرية، لم أعد الآن أذكر عنها شيئا، سبحت فى الفراغ الكونى غائبا عن الوعى لفترة لم أعرف مقدارها، وعندما استيقظت فجأة رأيت أمامى نقاطا سوداء بعيدة متناثرة
قلت لنفسى لا بد أن تلك النقاط هى الثقوب الدودية المؤدية إلى المستقبل التى تحدث عنها أينشتاين صاحب نظرية النسبية. كانت المشكلة الوحيدة أمامى وقتها أن كل ثقب منها يمثل نفقا مجهولا يأخذك فى رحلة "زمكانية" عشوائية إلى زمان ومكان فى الكون لا تعرف عنهما شيئا. للأسف لا توجد فى الفضاء لافتات مرورية تقرؤها قبل
قلت لنفسى لا بد أن تلك النقاط هى الثقوب الدودية المؤدية إلى المستقبل التى تحدث عنها أينشتاين صاحب نظرية النسبية. كانت المشكلة الوحيدة أمامى وقتها أن كل ثقب منها يمثل نفقا مجهولا يأخذك فى رحلة "زمكانية" عشوائية إلى زمان ومكان فى الكون لا تعرف عنهما شيئا. للأسف لا توجد فى الفضاء لافتات مرورية تقرؤها قبل دخولك إلى تلك الثقوب، لتحدد لك وجهتك الزمكانية الكونية. أسفل كل منها عبارة رقيقة تقول: إدارة مرور درب التبانة تتمنى لكم رحلة سعيدة. لم يكن أمامى وقتها سوى الإلقاء بنفسى فى أحد تلك الثقوب باختيار عشوائى غير مضمون العواقب، ولكنه أفضل ألف مرة من الاستمرار فى السباحة بلا هدف فى الفراغ الكونى إلى أن تفرغ أسطوانة الهواء التى أحملها على ظهرى مرتديا بدلة مكوك الفضاء موديل رع ألف ومئة وواحد، الذى صنعه طالب عبقرى بالمدرسة الثانوية الصناعية بكفر الدوار. ألقيت بنفسى مغمض العينين فابتلعنى ثقب دودى خرجت منه، ويا للعجب! إلى ميدان العتبة عام 2419 كما عرفت فيما بعد. كانت صدمتى هائلة. أربعة قرون بالتمام والكمال قفزتها فى المستقبل ولم يكد يتغير أى شىء. زحام الميكروباصات "رمسيس إلترامكو" المتهالكة فى الموقف العشوائى الملاصق لساحة الانتظار القبيحة المتعددة الطوابق لم يطرأ عليه سوى إضافة بعض النداءات الجديدة مثل: واحد عشوائيات قاهرة المستقبل، إلى واحد أطلال المفاعل النووى القديم. أما نداءات فيصل وشبرا الخيمة والمعادى وغيرها من الأحياء فقد ظلت على حالها. أحفاد أحفاد أحفاد الباعة الجائلين يشبهون أجدادهم القدامى، أقصد يشبهوننا تماما، فى نطاعتهم وأصواتهم العالية الزاعقة المتنافرة. عربات الكبدة والكشرى ما زالت تفوح منها رائحة تقلية حريفة تقلب معدة الديناصور الشرس تى ركس آكل اللحم شخصيا. لافتات عملاقة على جدران هيئة البريد تحذر المواطن من عواقب نسيان تحية الوطن ثلاث مرات فى اليوم على الأقل باستخدام بصمته الإلكترونية على هاتفه الذكى لأن عين الحكومة الساهرة لا تنام. ملصقات دعاية انتخابية بها نفس العبارات المتكررة على مر العصور. لافتة دائرية كبيرة قمة فى الإعجاز التكنولوجى تطير وتدور فوق صينية الميدان ليقرأها العابرون من جميع الاتجاهات، تؤكد أن الرخاء قادم عام 2429 تحت رعاية القائد الملهم. يا لسوء حظى، كانت الثقوب الدودية كلها متاحة أمامى. لماذا تخيرت ذلك الثقب بالذات؟ لم أكن قد خلعت بدلتى الفضائية بعد. لاحظت أنها تثير اهتمام العابرين وتستدعى نظراتهم المستريبة. خلعتها وألقيت بها فى حجر أقرب متسول وجلست بملابسى الداخلية تحت لافتة الميدان الدائرية الطائرة. منحت سلسلتى الذهبية لبائع تفترش بضاعته الطريق وأخذت مقابلها فانلة وبنطالا وحذاء رياضيا صينيا. ذهبت إلى مبنى ذاكرة الوطن الرقمية. جلست أمام أحد الحواسب. بحثت فى الوثائق الحكومية فقرأت العناوين التالية: "انفجار المكوك رع 101 خارج الغلاف الجوى بعد فشل قائده الذريع فى مهمة وطنية منذ أربعة قرون". "توجيه تهمة الخيانة العظمى لرائد الفضاء العميل بعد أن قضت المحكمة باعتباره متواطئا مع جهات أجنبية للإساءة إلى سمعة الوطن". "رائد فضاء خائن أهان المؤسسة عامدا، وأسقط مكوك الفضاء رع 101 فخر الوطن الذى أنتجته قريحة فريق من أفضل علماء الفلك بقيادة طالب نابغة بمدرسة كفر الدوار الثانوية الصناعية". "تعمد تدمير المكوك الفضائى الحكومى جريمة لا تسقط بالتقادم". خرجت مهموما من دار الوثائق الرقمية. بحثت عن أقرب مدرسة ثانوية صناعية علنى أجد بها طالبا نابغة يصنع لى مكوكا يعيدنى إلى الفضاء من جديد، لكى ألقى بنفسى فى أقرب ثقب دودى رحيم يأخذنى إلى "زمكان" عشوائى لا يعرفنى فيه أحد.