يصفونه بالعراب، لأنه فتح أمام الشباب طاقة ينفذون منها لعالم الكتب الذي كانوا "يجهلونه".. إنه أحمد خالد توفيق الذي طاف بنا في ألف مغامرة في عالم الخيال و"ما وراء الطبيعة"
كنت أخشى الكتب وأنا صغير، ربما لارتباطها في ذهني بالدراسة، وحقيبتي التي أثقلتها أوراق المناهج و"الكراريس"، لكن هذا الشعور تغير حينما سقطت عيناي على غلاف إحدى القصص التي تصدرت مجموعة كتب لدى بائع بسيط، وقد جذبني الرسم على الغلاف، والذي ظهر فيه رجل عجوز يبدو أن شيئًا مخيفًا يطارده، أمسكت بالقصة وأنا أنظر إلى صورة "البومة" أعلاها، وإلى جوارها كتب "روايات مصرية للجيب"، وتحتها عنوان السلسلة وهو "ما وراء الطبيعة".
بالطبع تملكني الفضول أكثر، نظرت إلى ظهر القصة لأجد اسم "أحمد خالد توفيق" وإلى جواره صورة صغيرة له، وأيضًا تعريف مبسط له.
وجدتني أغرق في هذا العالم الغريب، فكنت أقرأ بنهم وأطلب المزيد، حتى في فترة العطلة التي قضيتها لدى جدتي في مدينة طنطا، كانت قصص "ما وراء الطبيعة" تشغل جانبا كبيرا من اهتماماتي إضافة إلى كرة القدم وألعاب الفيديو، وربما جاء شغفي هذا من الصدمة التي مثلتها لي تلك القصص، بعدما غيرت صورة البطل في ذهني، التي
وجدتني أغرق في هذا العالم الغريب، فكنت أقرأ بنهم وأطلب المزيد، حتى في فترة العطلة التي قضيتها لدى جدتي في مدينة طنطا، كانت قصص "ما وراء الطبيعة" تشغل جانبا كبيرا من اهتماماتي إضافة إلى كرة القدم وألعاب الفيديو، وربما جاء شغفي هذا من الصدمة التي مثلتها لي تلك القصص، بعدما غيرت صورة البطل في ذهني، التي رسمتها لي الأعمال الدرامية، وهي الرجل الوسيم مفتول العضلات الذي يواجه الصعاب ويتغلب عليها، بينما في "ما وراء الطبيعة" فبطلنا الدكتور العجوز رفعت إسماعيل، طبيب أمراض الدم الذي أنهكه قلبه الضعيف، لكنه لا يرأف به، فيزيد مأساته بالتدخين بشراهة، كما أن جسده الهزيل يبدو بعيدًا تماما عن الصورة المثالية لأبطال الروايات، لكن يكفيه أنه يبدو "فاتنًا في بدلته الكحلية".

أحمد خالد توفيق كان يغزل ببراعة قصصه، يأخذنا من الأساطير الشعبية في مصر، وقصص "النداهة" و"القرين" التي تحكيها الجدات لأحفادهن كي يناموا مبكرًا، إلى حكايات الصيادين في الدول الإسكندنافية عن وحش مرعب يسكن أعماق بحيرة "لوخ نس"، لا يظهر أبدًا أمام الكاميرات، لكنه يتحين غفلة أحد الصيادين، كي ينقض على مركبه، ثم يخيفنا بحكايته عن مصاص دماء اقتفى أثر طبيب عجوز في مصر كي ينتقم منه.. هنا وهناك، كنا نعيش مع رفعت إسماعيل مغامرات تخطف الأنفاس، خاصة إن قرأت القصة في فترة متأخرة ليلًا، بعدما ينام الجميع، وتبدأ الظلال في مداعبة خيالك بأشكال مرعبة. (اقرأ أيضًا.. وداعًا أيها القريب.. هكذا نعى مشاهير «العراب» أحمد خالد توفيق)
بالتأكيد رفعت إسماعيل هو الابن الأشهر والأكثر نجاحًا لـ"توفيق"، إن صح أن نصفه بذلك بعد التغاضي عن فارق السن الكبير بينهما، لكن هذا لا ينفي أن الكاتب الكبير قدم الكثير من السلاسل التي نجحت في أن تحجز مكانًا لدى القارئ الذي أحب "ما وراء الطبيعة"، وعشق خلالها طريقة "توفيق" في السرد، ومن أشهرها، "سفاري" وبطلها الدكتور علاء عبد العظيم، الطبيب المصري الذي أخذه طموحه إلى أدغال إفريقيا، وهناك يجد نفسه في صراعات مريرة، أطرافها عصابات وحكومات متواطئة وأجهزة مخابرات وأيضًا أوبئة قاتلة.
أما في "فانتازيا"، وهي ثاني سلسلة له بعد "ما وراء الطبيعة"، فقد داعب أحلام الكثيرين بأن ينقلهم في رحلات بعيدًا عن هموم الواقع إلى رحابة الخيال، وهذا ما عشناه مع بطلة السلسلة، عبير عبد الرحمن، التي خاضت مغامرات مثيرة مع "سوبر مان"، وكانت شاهدة على اللحظات الأخيرة للزعيم النازي "هتلر"، كما كان لها الحظ في أن تكون جزءًا من "ملحمة جلجامش".

أديبنا الكبير كان له العديد من السلاسل الأخرى، إضافة إلى روايات كتب لها النجاح أيضًا مثل قصصه، ومنها "إيكاروس"، "في ممر الفئران"، "السنجة"، "الموت الأصفر" وأشهرها على الإطلاق "يوتوبيا"، التي ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والفنلندية، وفيها يحكي لنا "توفيق" عن عالم المستقبل، الذي سيعيش فيه الأغنياء داخل منتجعات يحيطها أسوار مرتفعة، وفي الخارج الفقراء يتقاتلون على "لقمة العيش".
الموت شغل حيزًا كبيرًا من كتابات "توفيق"، ليس في عالم الميتافيزيقا الذي برع التأليف فيه، لكن أيضًا من الجانب الفلسفي، فالرجل كان يخشى الموت حقا، وتحدث عن ذلك على لسان شخصياته، وأيضًا بكلماته نفسه، وفى كتابه "قهوة باليورانيوم"، تحدث عن اللحظات التي اقترب فيها من الموت، حين تعرض لـ"سكتتين قلبيتين" في يوم واحد، وللصدفة كان ذلك في 2 أبريل 2012، وبعدها بـ 5 سنوات، صعدت روحه إلى بارئها في اليوم نفسه. (اقرأ أيضًا.. بماذا وصف أحمد خالد الموت في أعماله)
اختار "توفيق" أن ينهي حياة أشهر شخصياته "رفعت إسماعيل" بالمرض، خاتمة تبدو "عادية" مقارنة بحجم المغامرات التي عشناها معه، بل جعلنا نشعر أن كل ما خاضه طوال حياته، وأقصد "إسماعيل" هنا، مجرد أوهام، لكن ألم الفراق لم يكن وهمًا أو خيالًا، ولعلنا شعرنا بالفاجعة مرتين، الأولى حين رحل الدكتور رفعت إسماعيل، والثانية حين مات صاحبه الدكتور أحمد خالد توفيق، الذي كتب عن مشهده الأخير قبل أن يوارى جثمانه التراب: "ستكون جنازتى جميلة ومؤثرة لكنى لن أراها للأسف رغم أننى سأحضرها بالتأكيد".
وبالعودة لحديث الذكريات، حينما جمعني أنا وأخي، وأولاد عمي، شغف قراءة قصص "ما وراء الطبيعة"، علمت حينها، أن عمي الدكتور أسامة نجم، تجمعه صداقة وطيدة بزميله في كلية الطب بجامعة طنطا، الدكتور أحمد خالد توفيق، ووعدنا أن يحصل لنا على توقيعه على القصص، وربما يجمعنا لقاء به، لكن السنوات مرت، ولم يكتب القدر لنا أن تتحق تلك الأمنية، ورحل كاتبنا المحبب ولم نقابله.