منذ ديسمبر الماضي اندلعت تظاهرات السودان التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس عمر البشير، الذي حاول قمعها، لكنه فشل رغم اعتماده على مستشارين أجانب حسب وثائق سرية مسربة
عندما اندلعت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في السودان في نهاية العام الماضي، كان رد فعل الرئيس السابق عمر البشير مطابقا لأفعال الحكام المستبدين، ما أدى إلى مقتل عشرات المتظاهرين السلميين، في الوقت نفسه، طُورت إستراتيجية أكثر غدرا، تضمنت نشر المعلومات الخاطئة على وسائل التواصل الاجتماعي، واتهام إسرائيل بالوقوف وراء هذه المظاهرات، وحتى تنفيذ عمليات الإعدام العلنية لردع المحتجين، إلا أن واضعي هذه الاستراتيجية لم يكونوا سودانيين، فوفقا لوثائق سرية، فقد أعدتها شركة روسية مرتبطة برجل الأعمال يفجيني بريجوزين المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
حيث أكدت عدة مصادر حكومية وعسكرية في الخرطوم لشبكة "سي إن إن" الأمريكية، أن حكومة البشير تلقت المقترحات وبدأت في العمل عليها قبل إقالة البشير في وقت سابق من هذا الشهر.
وقال أحد مسؤولي النظام السابق إن المستشارين الروس راقبوا الاحتجاجات وبدأوا في وضع خطة لمواجهتها بما سماه "الخسائر البسيطة ولكن المقبولة
حيث أكدت عدة مصادر حكومية وعسكرية في الخرطوم لشبكة "سي إن إن" الأمريكية، أن حكومة البشير تلقت المقترحات وبدأت في العمل عليها قبل إقالة البشير في وقت سابق من هذا الشهر.
وقال أحد مسؤولي النظام السابق إن المستشارين الروس راقبوا الاحتجاجات وبدأوا في وضع خطة لمواجهتها بما سماه "الخسائر البسيطة ولكن المقبولة في الأرواح".
في حين أن الوثائق لا تأتي من وكالات روسية رسمية، إلا أنها كانت في الأساس مخططا لحماية مصالح الكرملين في السودان وإبقاء البشير في السلطة.
الوثائق التي شاهدتها "سي إن إن"، التي تتضمن رسائل واتصالات داخلية للشركة، هي من بين عدة آلاف تم الحصول عليها والتحقيق فيها من قبل "مركز الملفات" في لندن، الذي يديره رجل الأعمال الروسي المنفي ميخائيل خودوركوفسكي.
هذه الوثائق تعود لشركة "إم إنفست" الموجودة في مدينة سانت بطرسبرج الروسية، ولها مكتب في العاصمة السودانية الخرطوم، وتعمل في التعدين، حيث حصلت الشركة على امتيازات لمنجم ذهب في السودان، ولكن يبدو أن أنشطتها تجاوزت التعدين.

ما تظهره وثائق "مركز الملفات"
أقام الرئيس البشير علاقة وثيقة مع الكرملين، وزار موسكو في عام 2017، كما قامت روسيا بتزويده بطائرات مقاتلة من طراز "سو 35" في نفس العام، وهو ما يوضح أن روسيا وضعت رهانا كبيرا على البشير، ومع تزايد الاحتجاجات ضد النظام، كان هذا الرهان في خطر.
وفقا للوثائق التي استعرضتها "سي إن إن"، قامت "إم إنفست" بوضع خطة لتشويه سمعة تلك الاحتجاجات وقمعها، حيث تقترح إحدى الوثائق الصادرة في أوائل يناير الجاري، نشر مزاعم بأن المتظاهرين يهاجمون المساجد والمستشفيات.
بالإضافة إلى ذلك، اقترحت تصوير المتظاهرين كـ "أعداء للإسلام وقيم البلاد"، من خلال زرع أعلام المثليين، كما أوصت بشن حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تدعي أن "إسرائيل تدعم المحتجين".
هل يشهد السودان مواجهة بين المجلس العسكري والمعارضة؟

في الوقت نفسه، اقترحت الاستراتيجية أن "تبدأ الحكومة حوارا وهميا مع المعارضة" من أجل "عزل قادة الاحتجاج وكسب المزيد من الوقت".
واقترحت "إم إنفست" طرقًا لتحسين صورة الحكومة، وذلك من خلال "التوزيع المجاني للخبز والدقيق والحبوب والمواد الغذائية".
وأوصت بتلفيق الأدلة "عن إحراق متظاهرين المساجد والمستشفيات ودور الحضانة، وسرقة الحبوب من المتاجر العامة".
الوثائق تكشف أيضا اقتراحا بإلقاء اللوم على الغرب في الاحتجاجات "وتصوير التحقيقات مع المعتقلين ونشر اعترافاتهم بأنهم يسعون لإشعال حرب أهلية في السودان"، حتى إنها اقترحت "عمليات إعدام علنية للسارقين وغير ذلك من الأحداث المذهلة لتشتيت انتباه الجمهور".
حاولت الشبكة الأمريكية التواصل مع "إم إنفست"، لكن مكاتب الشركة في سان بطرسبرج لا ترد على المكالمات الهاتفية، وأجاب متحدث بالعربية على مكالمة لمكتبها في الخرطوم، لكنه أنهى المكالمة سريعا، وقامت "سي إن إن" بزيارة مكتب الشركة في السودان لكن قيل لها إن المبنى كان مستأجرا لشركة روسية تدعى "مير جولد".
وأوصت وثيقة أخرى للشركة بالقبض على قادة الاحتجاج في اليوم السابق للمظاهرات، ونشر معلومات مضللة حول أن المتظاهرين يتلقون أموالا للمشاركة في المظاهرات.
وتقول أحد الوثائق إنه يجب إظهار كيف "احتجزت قوات الأمن سيارة بها أسلحة وعملات أجنبية، ومواد الدعاية التي يقف وراءها مواطنون أجانب".
في الوقت نفسه اقترحت "إم إنفست" تشكيل لجان إلكترونية على وسائل التواصل الاجتماعي لمهاجمة حركة الاحتجاج، وذلك عن طريق "بدء الخلافات بين المستخدمين والتعبير عن أجندة بديلة".
سيناريوهات تعامل العسكري السوداني مع المعارضة

وأشارت الشبكة الأمريكية إلى أن هذه التوصيات تشبه بطريقة ما، الخطة التي اتبعتها وكالة أبحاث الإنترنت، التي تتهمها السلطات الأمريكية بمحاولة التدخل في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016.
كان بريجوزين المعروف باسم "طباخ بوتين"، واحدًا من 13 روسيا وجه إليهم المحقق الخاص روبرت مولر تهما في التحقيق في التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية.
بالعودة إلى السودان، لا تشير الوثائق التي استعرضتها "سي إن إن" إلى أن أجهزة الأمن الروسية الرسمية ضالعة بشكل مباشر في محاولة قمع الاحتجاجات في السودان.
كانت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قالت في مؤتمر صحفي في يناير: "نحن على علم بأن بعض موظفي شركات الأمن الخاصة الروسية، الذين لا علاقة لهم بسلطات الحكومة الروسية، يعملون بالفعل في السودان، لكن وظائفهم تقتصر على تدريب الأفراد".
الوقت يبدأ في النفاد
أخبرت مصادر في الخرطوم شبكة "سي إن إن" أن حكومة البشير حاولت البدء في تنفيذ بعض خطط "إم إنفست"، فعلى سبيل المثال، بدأت في احتجاز الطلاب من منطقة دارفور واتهمتهم بمحاولة إثارة حرب أهلية، وهي إحدى الخدع التي أوصت بها الشركة الروسية.
وتقول المصادر إنه تم تعيين مستشارين روس من شركة خاصة في عدة وزارات وجهاز المخابرات الوطنية، ولكن كانت هذه الإجراءات قليلة ومتأخرة جدا.
ففي رسالة إلى البشير، صيغت في 17 مارس، اشتكى بريجوزين من أن "تقاعس" الحكومة السودانية تسبب في اشتداد الأزمة، وأضاف "أن عدم وجود خطوات فعالة من جانب الحكومة الجديدة للتغلب على الأزمة من المرجح أن يؤدي إلى عواقب سياسية أكثر خطورة".
وأشادت رسالة أخرى من بريجوزين، مؤرخة في 6 أبريل، بالبشير "كزعيم حكيم وبعيد النظر" لكنها حثت على إجراء إصلاحات اقتصادية فورية لحل الأزمة، لكن بعد خمسة أيام، تم خلع البشير.
لماذا تأخر الإعلان عن تشكيل المجلس المدني بالسودان؟

البعد العسكري
اكتسب السودان أهمية خاصة في موسكو بسبب موقعه على البحر الأحمر، وذلك عقب التحركات الأخيرة من قبل الولايات المتحدة والصين لإقامة وجود عسكري في المنطقة، حيث تتطلع موسكو لبناء قاعدة بحرية في بورتسودان.
ولعبت "إن إنفست" دورا مهما في توثيق الروابط العسكرية بين الخرطوم وموسكو، ففي يونيو 2018، صاغت الشركة رسالة نيابة عن المؤسسة الصناعية العسكرية السودانية، موجهة إلى الجنرال فاليري جيراسيموف، قائد القوات المسلحة الروسية، وتذكر زيارة الفريق أوليج ماكاريفيتش نائب قائد البحرية الروسية الشهر السابق للسودان، التي ناقش خلالها "إمكانية إنشاء نقطة لوجستية لسفن البحرية الروسية في السودان".

وفي السياق نفسه وقعت الشركة عقدًا مع وزارة الدفاع الروسية، اطلعت عليه "سي إن إن"، لاستخدام الرحلة رقم 223، وفي الفترة بين أغسطس 2018 إلى فبراير 2019، قامت الرحلة بتسع زيارات على الأقل إلى الخرطوم.
واستقل البشير إحدى هذه الطائرات في زيارته المثيرة للجدل إلى سوريا في ديسمبر الماضي، وهي الأولى التي يقوم بها زعيم عربي منذ بدء الانتفاضة السورية في عام 2011.
وتقول "سي إن إن" إن بقاء السودان في صميم الطموحات الروسية في إفريقيا يعتمد على الوضع القائم في الخرطوم، مضيفة أن موسكو لن تستسلم بسهولة.
وأشارت إلى أنها تمتلك صلات قوية مع الجيش السوداني، الذي يدير البلاد، حتى لو كان البشير، الرجل الذي وصفه بريجوزين بأنه "سياسي حكيم وبعيد النظر"، موجود الآن في سجن شديد الحراسة.