صوت نجيب الريحاني هو السهل الصعب، ينطق بالوجع ولكنه يجتاز بك سرداباً طويلاً من الهموم، فيه هذا الخليط من التعب والأماني، هذا الكر والفر بين الدموع المخنوقة التي تأبى على الظهور وبين الفرح المعلن. سخرية المتناقضات في صوت يبدو كأنه ورد ينبت على جرح، بينما لملامحه تعبيرها الأخاذ، المستحوذ على الانتباه، وهو اللافت في إطراقته وانحناءته الصغيرة وآثار التعب وروافد الحزن المرسومة على جبينه، وجهه ذو الطراز القديم نوعاً كبورتريه في أحد الصالونات العتيقة محملاً بالمتاعب، نصف الابتسامة المواربة هي الشعاع المباشر بينه وبين الآخرين، كما لو أن الشارع يعبس في وجهه فيبتسم كنبي يؤدي رسالته ويواصل المسير كأنه يتباهى بجرحه، هل كانت ابتسامته تحميه من القهر المجتمعي؟ ربما نجد إجابة ما في عينيه الشاردتين، وربما كانتا تبصران الحزن يحترق في مقدمة فهرس طويل يحتوي كل التناقضات: قيد وحرية.. جرح وأمل.. جفاف ومطر.. عمق وبساطة.. زهور وقنبلة و.. و.. كل شيء ونقيضه يصنع كائناً من لحم ودم وفن يشتهي السعادة ويذهب عميقاً في السخرية.
إنه الصوت الذي استطاع أن يمحو هذا الفارق اللفظي بين الضحك والبكاء، يباغت العقل ويقتحمه ويستدعي كل الحواس إلى مساحة مهيأة للعواطف، حيث يطرح الفرح حزناً والحزن فرحاً، يلتزم بالسخرية كفن يمنح القضايا الكبيرة بعدها الإنساني دون ابتذال أو غلاظة، فتبدو أعمال الريحاني كأنها بيان فني للمضرجين بجراحهم الاجتماعية مرفوع ضد المرحلة التي ظهرت فيها، والمدهش أن البيان الريحاني ظل مرفوعاً في كل المراحل التي أعقبته لتعلنه أكثر حضوراً وتأثيراً في أجيال كثيرة استلهمت تجربته واستمدت منها طاقة السخرية اللاذعة، حسب توصيف د.محمد كامل القليوبي في كتابه "نجيب الريحاني.. ذكريات وأشواق"، يقول القليوبي: "ستظل باقية ما بقي هناك أناس يحبون ويكرهون ويغضبون ويعانون من كافة أشكال القهر والسحق الاجتماعي ثم يخرجون لها ألسنتهم ضاحكين وهازئين، وإن لم يفعلوا فإن الريحاني سيقوم بذلك بالنيابة عنهم جميعاً لينتقم لهم من كافة منغصات حياتهم ومما يضايقهم ويكدر صفوهم ببعض الحكمة والضحك الممرور".
وهنا ندرك أن الحضور القوي للريحاني جيلاً بعد جيل كإمام لـ"الكوميديانات" لا يتمثل في فكرة الزمن المجردة والتي تتوزع بين الحنين الجارف للماضي أو على حد تعبير أوسكار وايلد "من المضحك حقاً أن هذه الأيام التعيسة التي نحياها سوف تصير في المستقبل أيام الماضي الجميلة"، أي أن كل شيء يمر يصبح سهلاً وجميلاً، لكن خطواته على درب السخرية بارزة لدرجة الاقتحام، لا تجرفها أو تمحوها العوامل الزمنية.
والمتأمل في مسرحياته وأفلامه لا بد أن يعثر في خلفياتها على بعض الأفكار السياسية الممزوجة بالكوميديا الصارخة على طريقة "شر البلية ما يضحك"، وعلى هذا الأساس استمر فنه أكثر من قرن واستمر الكوميديون بعده على دربه رغم التطور المذهل الذي طرأ على المجتمعات وأنساقها الفكرية، أظن أن نوعية ما قدمه الريحاني هو ما احتاجته المجتمعات خصوصاً في الظروف والتحولات الصعبة، على اعتبار أن السخرية في أعماله لا تثير الضحك فقط وإنما تفضح المستور ويستقبلها الجمهور بإدراك آخر، هو إدراك التلذذ بالألم، وهذه قاعدة أساسية في فن السخرية، حسب ما يؤكده مثلاً الطبيب النفسي النمساوي "ألفريد أدلر"، وهو أحد تلامذة "فرويد"، حين عرّف السخرية بأنها "خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز"، وبينما أتوقف قليلاً أمام مقولة الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني "إن السخرية ليست تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعاً خاصاً من التحليل العميق. إن الفارق بين النكتجي والكاتب الساخر يشابه الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يضحي مُهرجاً"، إذ إن الريحاني أدرك هذا الفارق في مرحلة مبكرة في حياته الفنية وتعامل بذكاء وسرعة بديهة وخيال رحب كممثل وكمخرج وكصاحب فرقة مسرحية، وتوغل مع رفاق الرحلة والمشوار في القضايا المجتمعية والإنسانية من باب السيكولوجي، فكان أمير الضحك وصاحب السعادة الذي يحول المآسي إلى مهازل والألم إلى موقف كوميدي مضحك، أو ما اصطلح عليه نقدياً بـ"كوميديا الموقف" القائمة على المفارقات، وكان في نتاجه مرآة حية لنبض الحياة والمجتمع، ولمعنى الفرد وموقعه في هذا المجتمع. ذلك أن تمرده الحياتي والإبداعي منحه قوة العيش على الحدود الواهية للسنوات الطويلة من المماحكة والغضب، الحلم وقلة الحيلة، السعادة وخيبة الأمل، كل هذا أسس تجربته التي اختار الصراحة عنواناً لها.
يقول الريحاني في مذكراته: "خلقت صريحاً لا أخشى اللوم فى الحق ولا أميل إلى المواربة والمداراة وأذكر الواقع مهما كانت مرارته وأسجل الحقائق مهما كان فيها من ألم ينالنى أو ينال غيري، بل إننى كلما سردت واقعة فيها ما يشعر بالإقلال من شأنى أحس السعادة الحقة.. سعادة الرجل الصادق المؤمن الذى يقف أمام منصة القضاء ليدلى بشهادته الصحيحة ثم يغادر المكان مستريحا".
(2)
الريحاني، ضحكة مصر ورسمها البياني المتأرجح بين
صعود وهبوط، وبوصلة الباحثين عن وصايا المحبة والحنين، الضاحك الباكي، الثائر
الساخر، فيلسوف الكوميديا، تلميذ روايات الفرنسي الساخر موليير ومترجمها، ربما كان
الحصى كثيراً على درب صعوده، وربما عانى كثيراً التشريد والجوع والحرمان، لكنه مر
في أفق الأحلام وحقق ما أراد، يقول عنه رفيق دربه الكاتب والشاعر بديع خيري: "الريحاني لم يكن مجرد ممثل يكسب عيشه من مهنة التمثيل، بل كان فيلسوفاً وفناناً.
فناناً أصيلاً عاش لفنه فقط، ولقي الاضطهاد والحرمان وشظف العيش في سبيل مثله العليا".
لم يكن أحد يتصور أن الطفل الانطوائي بمدرسة الفرير الابتدائية، هذا الصغير الذي ولد في عام 1891 من أم مصرية وأب عراقي وسمي نجيب وعاش في حارة درويش مصطفى في حي باب الشعرية بالقاهرة، سيكون كشكش بيه وشحاتة أفندي أبو حلموس وسي عمر وسلامة والأستاذ حمام، رمز مصر في الضحك والسخرية، لم يعرف الكثيرون جذوره العراقية، هو ابن مصر لا مفر.. ابن مصر شكلاً ومضموناً، نهض من قاع هذه البلاد وتعمد بأوجاعها وورث نصيب ناسها من القهر، لكنه لم يصب بالرضا عن المتاح من السقوط وسلب الآدمية، بل تجاوز كل ذلك إلى فضاء التحرر من عبودية الأشياء ومن "الغلب" والبؤس بالسخرية، إنه انتهج منهج المصريين، الشعب المصري من أكثر الشعوب سخرية وإطلاق النكات على أحواله البائسة، والريحاني ابن هذا الشعب الساخر، لم يسأل أحد عن عراقيته أو عن ديانته المسيحية، لم ينتبهوا إليها من الأساس، فقط اجتمعوا على حبه وسخروا وضحكوا معه، رأوا فيه صورتهم تتحرك على الشاشة أو خشبة المسرح، ذلك الإنسان البائس، قليل الحظ، عثر الخطوات، المشدود بين أصوله الفقيرة وبين حضوره الدرامي في أوساط الأغنياء، تلك المفارقة التي تكررت في أفلامه ونصبته رئيساً لدولة الفقراء الساخرين والمنقلبين على أوضاعهم بأقوى الإيمان، بالسخرية سلاح المشاكسين.
يدخل الأستاذ حمام القصر الفخيم وهو الرجل المعدم
الذي جاء من خلف كل السدود الأدمية، فيتعامل مع الخادم بهيبة الباشا، وحين يتقابل
مع الباشا يخدعه مظهره البسيط..
الباشا: إنت جاي هنا تعمل إيه؟
الأستاذ حمام: أدرس لبنت السلطان
الباشا: بنت السلطان؟
الأستاذ حمام: بنت الباشا.. بنت الباشا
الباشا: إنت المدرس الجديد؟
الأستاذ حمام: أيوه أنا المدرس الجديد
الباشا: وشايف تقدر تسد في الشغلانة دي.. يعني إنت
ضليع في قواعد اللغة العربية في أصول اللغة العربية
الأستاذ حمام: أيوه زي ما إنت ضليع في قواعد الجرجير
وأصول البقدونس والفجل الرومي...
من أشهر وأجمل مشاهد السينما المصرية في فيلم "غزل البنات" (1949) إخراج أنور وجدي، آخر أفلامه حيث لم يمهله القدر ليراه، فمات بعد أن صنع مفارقته الغريبة، حيث كتب رثاء لنفسه بخط يده قبل خمسة عشر يوما من وفاته بتاريخ 24/5/1949 قال فيه: "مات نجيب مات الرجل الذي اشتكي منه طوب الأرض وطوب السماء.. إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذي لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق ولم يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح.. مات الريحاني في 60 ألف سلامة".
(3)
أنزل درجات مكسورة لمرسى على النيل وأتجه إلى مركب
صغير، أجلس وأتسمر مكاني كأنني صرت جزءاً من خشب المركب، لا أرى أمامي سوى النيل..
هل النيل ينسى..؟ من عاداته أن ينسى!!!!، كما يقول محمود درويش.. صوت الريحاني
يطوف بي: "يا لطيف.. يا لطيف"، لم تزل عيناي معلقتين بالنيل وقلبي ينتفض
وصوت محبوس بداخلي، أحاول أن أتباهى بامتداد النيل أمامي، لكن خلف عيوني الخائفة
تسكن مصر بلادي الطيبة، لا الجغرافيا ولا الخارطة. تدور المركب وأدور معها كما
دورة الحياة التي تسرقنا ونحن نعيش على الهامش ننتظر اللحظة المواتية للحب أو
السخرية.
"عشانك إنت أنكوي بالنار والقح جتتي.. وادخل جهنم وانشوى واصرخ واقول يا لهوتى"، أضحك هذه المرة مع الريحاني المسكون بالحزن، تخطفني نظرة الشجن التي تطل من عينيه وتلم كل مساكين الأرض وكبرياء دموعه (ضحيت هنايا فداه.. اشهد يا ليل وقول).. اشهد يا نيل وقول: الله محبة.