رمز الطعام في «خرج ولم يعد»
علاء خالد
٣١ يوليه ٢٠١٩ - ١٢:٤٠ م
فيلم خرج ولم يعد
في فيلم «خرج ولم يعد» لمحمد خان، 1984، سيناريو عاصم توفيق؛ هناك مفهوم جديد لتناول الطعام، يفرق بين المدينة، المكان المُصنَّع، وبين القرية، المكان الطبيعي.
تناول الطعام في القرية جزء من الحياة اليومية، وغير منفصل عن أي نشاط آخر، فالطعام ومصادره تحوط بالمشهد الإنساني في كل ممارساته، داخل البيت وخارجه.
أما في المدينة فهذا المشهد الطبيعي غائب، واستُبدل به عمارات ومكاتب أرشيف موظفين، وأسطح بيوت، وزحام، مما جعل الطعام يمارس كطقس فقير يؤدى بدون متعة، وبعيدا عن مصادره، أو فقد متعته بعد أن اختفى المشهد الطبيعي الذي جاء منه.
***
بطل الفيلم عطية، الشاب الثلاثيني العائد للقرية من أجل بيع ثلاثة أفدنة ورثها عن والده، كي يتزوج. مليء بالقلق على مصيره في المدينة وخطيبته التي يمكن أن
يفقدها. عائد أيضا بنفس مسدودة على متعة الطعام، أي فاقد لهذه الشفرة التي ستدخله
لعالم القرية الفردوسي، كما يراه المخرج.
هناك تستضيفه عائلة كمال
***
بطل الفيلم عطية، الشاب الثلاثيني العائد للقرية من أجل بيع ثلاثة أفدنة ورثها عن والده، كي يتزوج. مليء بالقلق على مصيره في المدينة وخطيبته التي يمكن أن
يفقدها. عائد أيضا بنفس مسدودة على متعة الطعام، أي فاقد لهذه الشفرة التي ستدخله
لعالم القرية الفردوسي، كما يراه المخرج.
هناك تستضيفه عائلة كمال بيه الإقطاعي
القديم -الذي يعده بشراء الأفدنة الثلاثة- التي تأكل بنهم يفوق قدرته على مجاراتها،
فيصاب بتلبك معوي، وربما دلالة هذا التلبك المعوي ليس إلا التفرقة بين نمطين
للإنسان داخل الفيلم: ابن القرية وابن المدينة. وأيضا بدايته لفك شفرة القرية عن
طريق "هضم" موروثها الإنساني الغريزي، الذي يشكل الطعام أحد جوانبه،
الذي فاق قدرته على الهضم في البداية.
***
هنا علاقة بين الطعام وتصاعد موجات الفردية، كأن الطعام
وتمثلاته وطقوسه أحد أسلحة مواجهة العزلة والأنانية*. وهو ما يظهر في وجود
"عطية" وسط أهل خطيبته وأزواج أخواتها وأولادهن. الكل يأكل وهو منفصل عن
الآخر، وربما لا يراه، كون المدينة كسرت هذا الرابط الذي يقوم به الطعام، وحولت
الطعام إلى طقس فردي خال من الحميمة، وهو على عكس ما يظهر في عائلة كمال بيه
المقبلة على الطعام بنهم وتفاؤل ومعدة تهضم الزلط، حتى وإن لم يتحدثوا على
المائدة، فترى هذه الرابطة الممتدة فيما بينهم من خلال طقس التناول، والمتكرر في
الفيلم. فإن كان الفيلم قد حافظ على طقس وكرره دون خوف من ملل التكرار، فهو طقس
الطعام، فاليوم ينقسم إلى ثلاث وجبات أساسية، وفيما بينها نقاشات حول هذه الوجبات.
حتى ولو كانت هناك مبالغة في هذا، ولكنها مبالغة تعلي من قيمة "المتعة"،
ضد التقشف المديني. وربما الريف يستخدم هنا لإدانة الحداثة، المدينة، التي سحبت معها المتعة من كل شيء، وأفرغت الطقس
من طاقته، واستبدلت الشكوك والأسئلة بالمتعة.
***
بعد مكوث عطية في القرية، واتساقه مع قانونها، وهضم
موروثها الغريزي في الاستمتاع بتناول الطعام؛ يحدث تغير في ثخانة إصبعه الذي كان
يحمل دبلة خطوبته لفتاة المدينة. دلالة رمزية استخدمت الدبلة لتعبر عن أن الرابطة قد
حلت بينه وبين خطيبته، التي كانت مقرونة بنوع من الجفاف العاطفي وربما الجنسي.
كانت خطيبته بالنسبة له عبارة عن واجب يجب أن يؤديه بدون شهية، أو استمتاع، أو
رغبة، وبذهابه للقرية بدأ يرى العلاقة بالمرأة من زاوية أخرى: الرغبة. فالطعام أيقظ
فيه هذا الجزء المنسي في المدينة. فالطعام وسيلة إشباع تشبه الممارسة الجنسية، في
الجزء الجماعي الخاص بالحميمية، والتي هي ظل من ظلال العلاقة الجنسية "إن
تناول الطعام في الكثير من الثقافات تجربة جنسية".**
***
الفهم الصحيح
للحياة في القرية يقوم على الإفراط في تناول الطعام. المتعة لها وزن يتم تمثله في
الجسم سواء للرجل أو الأنثى، وضد فكرة "النحافة" التي تنادي بها
المدينة، أو المجتمع الذكوري الرأسمالي، الذي يريد السيطرة وترويض هذا الجانب الغريزي
للأنثى، وعلاقته بالطعام، لصالح العقل الذي تؤمن به الحداثة وتقدسه***، تفقد
المرأة جزءا فعالا من ذاتها، من طبيعتها الأصلية، باسم هذه النحافة، وينفصل جسدها
عن هذه الطبيعة الأم التي أتت منها، وتدخل في سياق من الآلية في علاقتها بجسدها،
يحجب عنها المصدر الذي أتت منه، كما حجبت المدينة كل المصادر وأصبحت هي المصدر
الوحيد لتفسير حياتنا.
***
في الفيلم هناك لقاء دائم يتم بين عطية وخيرية الفتاة
الجميلة المحبة للطعام والطبيعة، ابنة كمال بيه؛ بين ثنايا أشجار الموز. هذا المكان
الذي تسميه خيرية الجنة، حيث يتم التواصل روحيا وجسديا فيما بينهما كأنهما آدم
وحواء، فالرغبة قائمة حتى وإن لم تجسد في فعل. كون الفعل كامنا في الجنة.
..............................................................................
*، **، ***: أنثروبولوجيا الطعام والجسد- النوع والمعنى والقوة.
كارول م. كونيهان. المشروع القومي للترجمة. الكتاب رقم 1779. ترجمة: سهام عبد السلام.
الطبعة الأولى - القاهرة 2013.