من هنا جاء بناء الهندسة السياسية للعراق ونظامه السياسى بعد الغزو الأمريكى للعراق، لكى يكرس نظاما من المحاصصات والزبائنية السياسية، والفساد، على نحو ما قام به بريمر الحاكم الأمريكى للعراق، وارتكز النظام على القيادة الثلاثية: الرئاسة للأكراد، ورئاسة مجلس الوزراء للشيعة، ورئاسة البرلمان للسنة، وامتداد ذلك ليشمل تشكيلة البرلمان، والوظائف العامة، وقيادات المؤسسة العسكرية، والمحافظين، تشكيلة للنظام ذات طبيعية مذهبية، وقومية ودينية، أدت هشاشة هذه التركيبة السياسية، والقادة السياسيين القادمين مع دبابات ومدافع الاحتلال الأمريكى، إلى المزيد من تكريس الانقسامات المذهبية والقومية، على نحو أدى إلى بروز دور المرجعيات الدينية الشيعية والسنية فى السياسة العراقية وفى التأثير على الجماهير المذهبية، وعلى القادة السياسيين، والأحزاب السياسية ساهمت النخب السياسية، المذهبية القادمة من أحزاب على مثالها، ومعهم المرجعيات الدينية، فى استثمار فوائض التهميش السياسى التاريخى للشيعة، فى توظيفه سياسيًّا من أجل السيطرة على المكون الشيعى فى تركيبة التعدد الدينى والمذهبى.
من ناحية أخرى أدت هيمنة وصحوة المكون الشيعى العراقى ومظلوميته التاريخية إلى استقواء بعضهم بالنظام الإيرانى، على نحو أدى إلى شيوع إحساس ووعى جمعى شعبى مضاد للسنة، وبمظلومية سنية جديدة من منظور وإدراك العشائر السنية وشيوخها، ومعهم النخب السنية، على نحو أدى إلى تيسير تمدد تنظيم داعش فى هذه المناطق السنية، وبدا لبعض المكون السنى الشعبى عن خطأ فى الرؤية والتقدير السياسى، أن داعش هى الرد على الهندسة السياسية الأمريكية، التى كرست الدور القيادى للمكون الشيعى فى تركيبة النظام العراقى ما بعد الاحتلال.
لا شك أن المظلومية التاريخية السياسية للشيعة، منذ استقلال العراق، وتحوله من الملكية إلى الجمهورية، والانقلابات العسكرية المتعددة، والتمثيلات السياسية المحدودة لهم فى تركيبة النظام، فضلا عن القمع الوحشى المستمر، أدى إلى إذكاء الروح والثقافة المذهبية، وإلى تكوين ومراكمات انقسامية فى البُنى النفسية شبه الجماعية للشيعة، ومن ثم كان الاحتلال الأمريكى للعراق بمثابة فرصة تاريخية للوصول إلى سدة قيادة الحكم، وساعد على ذلك بعض القيادات الشيعية التى جاءت مع الدبابات والمدافع وطائرات المحتل الأمريكى، وبعضهم كانوا على علاقات وثيقة بالأجهزة الاستخباراتية الأمريكية من قبل، وهؤلاء ساهموا مع بعض المرجعيات فى تأجيج المذهبية الدينية السياسية، وتمدد الانقسامات الرأسية داخل المجتمع العراقى.
على الجانب الآخر ساهمت سياسة الإقصاء، وتسريح الجيش العراقى فى عهد صدام، لا سيما الضباط السنة فى انضمام بعضهم إلى داعش، وإلى ازدياد الحس والإدراك الجمعى بتهميش المكون السنى، وساهم فى ذلك، بعض ما يسمى بالمرجعيات السنية، وبعضهم يعتمد على سياسة مذهبة الصراع الإقليمى، بين إيران، والدول العربية السنية فى إقليم النفط.
هذا النزاع المذهبى الداخلى، أصبح جزءًا من الصراعات على المكانة فى الإقليم، وأحد أدواته من قبل بعض الفواعل الإقليمية التى باتت مؤثرة فى العمليات السياسية فى العراق. الأخطر أن حالة السيولة والاضطراب السياسى الداخلى، ومواجهة تنظيم الدولة، والسعى إلى تحرير المناطق التى احتلها فى العراق أدت إلى زيادة معدلات التدخل والوجود الأجنبى فى العراق خاصة فى ظل مذهبة الصراع ضد داعش، وتشكيل قوات الحشد الشعبى، والدور الإيرانى فى توظيفها، وتأثير بعض المراجع الشيعية فى النجف على قادة ميليشيات الحشد الشعبى.
هذا النمط من المذهبية السياسية، فاقم من الانقسامات الرأسية بين المكونات وأدى إلى شلل الحكومات المتعاقبة، التى افتقرت إلى الكفاءات السياسية، والتكنوقراطية فى ظل نظام المحاصصات، فى التعينيات فى الوظائف الحكومية التى اعتمدت على المعايير الزبائنية السياسية والمذهبية، دونما اهتمام بتكافؤ الفرص بين المواطنين وخاصة الشباب، فى ظل انتشار معدلات البطالة. انتشر الفساد فى غالب أجهزة الدولة العراقية، ووصلت معدلاته إلى مستويات كبرى، من قبل النخب المذهبية السياسية، فى ظل الحكومات المختلفة.
ظل المكون الكردى، منذ الحكم البعثى، طامحًا لتأسيس دولة مستقلة، فى شمال العراق، وذلك على الرغم من أن الجغرافية السياسية، والتوازنات الإقليمية لا تسمح بإقامة هذه الدولة، ومن ثم كان حرص القادة الأكراد من كل القوى السياسية الرئيسة على المزيد من استقلالية الإقليم الكردى، والسيطرة على شئونه الداخلية، فى ظل علاقات مميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية، والمناورات الذكية مع دول الإقليم، ومع المكونات المذهبية والدينية الأخرى، والمساهمة فى مواجهة تنظيم داعش فى المناطق القريبة والمجاورة لإقليم كردستان.
أدت الانقسامات فى التركيبة الأولية لمكونات العراق، والتدخل الإيرانى إلى عدم قدرة الزعامات المذهبية على إدارة عقلانية ورشيدة سياسيا لأمور الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، ولا مبالاة الحكومات المختلفة بالتغيرات الاجتماعية والجيلية التى حدثت فى أعقاب الغزو الأمريكى، وبروز فجوات بينهم، وبين الأحزاب ورجال الحكم، وأيضاً تراجع تأثير المراجع الدينية، وسط بعض الأجيال الشابة، ونفورها من التدخلات الإيرانية وتأثيرها على الحياة الاجتماعية، والاقتصادية فى البلاد، فى ظل مظاهر الفساد للقوى الحزبية، والسياسية المختلفة لا سيما ذات العلاقة مع النظام الإيرانى، وأدواته فى الإقليم، وخاصة الدور المتعاظم لقاسم سليمانى، وهو ما أدى إلى تراكم فوائض من الغضب لدى بعض الشباب، من كل المكونات المذهبية والدينية العراقية، وهو ما ظهر جليا فى الانتفاضة العراقية إزاء حكومة عادل عبدالمهدى التى ثبت عدم قدرتها على مواجهة مشاكل الفساد المستشرى، والإفقار المتزايد لفئات اجتماعية عريضة فى كل المناطق العابرة للجغرافيا المذهبية بما فيها بعض شرائح الطبقة الوسطى.
من هنا كانت التظاهرات جامحة، وفى المناطق الشيعية والسنية التى تجاوزت بعض المرجعيات الدينية التقليدية، ومساهمة بعضها فى الحض على التظاهر، أو الدعوة إلى الحكومة، وكل المكونات الأساسية فى الحكم، للسعى لتحقيق مطالب المتظاهرين.
الجديد فى هذا الوضع الانقسامى المذهبى الداخلى، هو بشائر السعى لتجاوز المذهبية السياسية، والسعى إلى تأسيس وطنية عراقية تتجاوز الانقسامات الأولية، وحول مواطنية تعتمد على حكم القانون والمساواة وعدم التمييز على أساس الانتماءات الدينية والمذهبية والمناطقية، ورفض التدخل فى الشئون الداخلية العراقية، أو المساس بسيادة العراق، من إيران وغيرها من الدول الأخرى، وهو أمر بالغ الأهمية، منذ انهيار الدولة، والنظام البعثى الشمولى وتأسيس الهندسة السياسية المذهبية، فى عهد بريمر الحاكم الأمريكى للعراق.
الوضع اللبنانى، رغم بعض التشابهات مع العراق، إلا أنه يختلف عنه منذ نشأة لبنان الكبير، والاستقلال عن الاستعمار الفرنسى الذى أسس لدولة هشة، ونظام طائفى قوى، ومعه نخب طائفية، وأحزاب هامشية تمثل أداة فى أيدى قادة البيوتات الطائفية الكبرى تاريخيا ويتوارث أبناؤهم مواقع القيادة، والتمثيل النيابى لطوائفهم فى البرلمان، وفى تشكيلات الحكومات المتعاقبة، وذلك قبل وبعد الحرب الأهلية، ودخول قادة الميليشيات إلى قلب العمل السياسى الطائفى، فى ظل ظهور بعض التعددية داخل الطوائف، وبعض الأحزاب الطائفية، بشعارات سياسية عامة. بعد الطائف حدث بعض التغير النسبى فى الوثيقة، التى تمت تحت إشراف السعودية لكن لم يتم تطبيقها على النحو المرجو منها.
فى أعقاب الطائف، استمرت القوة السياسية الفعلية النافذة لقادة الطوائف وأحزابها الطائفية، فى صناعة القرار السياسى، والسياسات، والمحاصصة فى صفقات الفساد المستشرى، والتى وصلت إلى مستويات غير مألوفة فى دولة صغيرة، يعتمد توازنها واستقرارها النسبى على الأوضاع الإقليمية المتغيرة، وعلى النفوذ السورى المستشرى، بحيث أصبح الحاكم/ الممثل للنظام السورى، هو الحاكم الفعلى، فى تشكيل الحكومات فى ضوء تحالفات سوريا مع بعض المكونات الطائفية.
ساهم النفوذ السورى، وتحالفاته، قبل وبعد انسحاب القوات السورية من لبنان فى مراكمة أشكال، وفوائض من الغضب لدى بعض الطوائف الأخرى، خاصة فى ظل بعض عمليات الاغتيال السياسى لبعض الشخصيات التى وقفت ضد هذا النفوذ فى قلب التركيبة الطائفية، وهو ما أدى إلى الاحتجاجات والانقسامات واسعة النطاق التى حدثت بعد اغتيال رفيق الحريرى، فى ظل ازدياد النفوذ الإيرانى السافر والداعم لحزب ا لله، ودور الحزب فى مواجهة إسرائيل، على نحو أتاح للحزب وقياداته بناء صورة إيجابية فى المنطقة والعالم العربى، إلا أن ممارسات الحزب داخل التركيبة السياسية، وتحالفاته، وسلاحه، أدى إلى ممارسة الهيمنة داخل نمط القوة الطائفى، ولم يستطع الحزب تجاوز السياسة الإيرانية الإقليمية، وداخل لبنان، وذلك بالنظر إلى تكوينه، وتمويله التاريخى المستمر، وتسليحه وتدريبه، ومن ثم ظل فى إدراك ووعى القوى الطائفية الأخرى، محض أداة إيرانية فى السياسة الإقليمية واللبنانية الداخلية.
من هنا تحول الحزب وتسليحه وكوادره، إلى سلطة كبرى وأساسية فى مواجهة كل القوى الطائفية الأخرى، ومعه حركة أمل بقيادة نبيه برى. ظلت هذه الثنائية الشيعية تسيطر على هندسة الحكومات، وأشكال الخروج على سيادة لبنان، بأشكال مختلفة، على نحو أدى إلى مراكمة أشكال من فوائض الغضب لدى المكونات الطائفية الأخرى، بحيث تحولت السياسة اللبنانية الداخلية إلى أداة فى أيدى هذه الثنائية، وذلك على الرغم من المهارات السياسية لقيادة أمل نبيه برى، والصورة الإيجابية لدى بعض القوى الاجتماعية فى العالم العربى، لحزب الله كقوة مقاومة إزاء إسرائيل.
هذه الصورة اهتزت بعد ذلك من التدخل فى الحرب الأهلية فى سوريا، وفى الحرب الأهلية فى اليمن، وفى استقوائه على المكونات الطائفية اللبنانية الأخرى، وفرض شروطه فى تشكيل الحكومات المتعاقبة.
من الشيق ملاحظة بروز دور وزير الخارجية جبران باسيل، ودوره فى إذكاء الروح الطائفية لإثبات دوره ومكانته بوصفه حامى حقوق الموارنة والمسيحيين، وذلك فى مواجهة القادة المسيحيين الموارنة من أمثال سمير جعجع، وسليمان فرنجية، والكتائب، وذلك فى إطار تحالفه مع حزب الله، وذلك من أجل أن يصل إلى سدة الرئاسة بعد انتهاء الولاية الرئاسية للجنرال ميشيل عون، والد زوجته. تنامى دور جبران باسيل من خلال العلاقة العائلية ومصاهرة أسرة عون، وذلك داخل القصر الرئاسى، وفى الحكومة.
من هنا اندلعت التظاهرات واسعة النطاق، وخطاب الجماهير العارى، واللغة البذئية ضد جبران باسيل وأركان النخبة السياسية الطائفية كلها، وهو ما شكل إحدى أدوات نزع الهيبة عن الرموز الطائفية كلها، والسعى إلى ضرورة إحداث تغيير فى النظام الطائفى، يبدأ بتغيير الحكومة، وتشكيل أخرى من التكنوقراط والمطالبة بفتح ملفات الفساد، والمسئولين فى أجهزة الدولة، والقادة الطائفيين الكبار. تظاهرات داخل المناطق التى تُعد جزءًا من الجغرافيا الطائفية الشيعية فى الجنوب، وهو ما يشير إلى معاناة الفئات الفقيرة الشيعية الداعمة لحزب الله، وإلى بعض من التغير فى إدراك بعض هذه الفئات إزاء بعض ممارسات الحزب وقادته فى البرلمان والحكومة.
الساحات اللبنانية جمعت المتظاهرين من كل الطوائف من طرابلس إلى بيروت إلى جل الديب إلى صور والنبطية.. إلخ، وذلك فى استعراضات عابرة للطوائف، وساعية وطامحة إلى بناء مواطنية ووطنية جديدة تتجاوز المكونات الأولية الدينية والمذهبية والطائفية والمناطقية.
أيا كانت نتائج الحراكين اللبنانى والعراقى، إلا أن بعض البشائر الجديدة للتوجه نحو وطنيات جديدة، ومطالب بدولة القانون والمساواة والمواطنة فى كلا البلدين.