د. مجدي العفيفي
(لو أستطيع أن أكسو شعبي ذهبًا لكسوته، فهو يستحق…)
إن حاكمًا يقول مثل هذه الكلمات لهو إنسان يدثره الله برحمة منه تجعله رحيمًا بشعبه محبا له رؤوفًا به عزيزًا عليه ما لاقاه من عنت الجمود ردحًا من الزمن العصبي قبل خمسين عاما، ومن جبروت ركود أخرجه من العصر إلا قليلا. وإن «شعبًا» يقول عنه زعيمه مثل هذه الكلمات المضفرة برحيق الإخلاص، لهو شعب ليس بمستغرب منه أن يفيض بكل هذا الولاء، ويجيش بكل هذا الانتماء، ويتمتع بكل هذا الوفاء، إزاء الحاكم الحريص عليه أكثر من نفسه.. فأما هذا الإنسان فهو جلالة السلطان قابوس بن سعيد، صاحب النفس المطمئنة الموصولة بربها والمتصلة بشعبها.. وأما الشعب فهو الشعب العماني.. و«قابوس والناس».. قصة حب سيخلدها الزمن للأجيال والأيام وكيفية تشكيل العلاقة بين الحاكم والشعب.
(إنسانية الإنســـان) هي شفرة من الشفرات التي تنتظم جماليات المجتمع العماني في تشكيله المعاصر الذي تجري في أرجائه هذه القصة، وأحد أهم القواسم المشتركة في الخطاب العماني بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل لا تخلو وحداته من إشارة جوهرية إلى المواطن دورًا ووظيفة، وسيلة وغاية، فتربط
(إنسانية الإنســـان) هي شفرة من الشفرات التي تنتظم جماليات المجتمع العماني في تشكيله المعاصر الذي تجري في أرجائه هذه القصة، وأحد أهم القواسم المشتركة في الخطاب العماني بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل لا تخلو وحداته من إشارة جوهرية إلى المواطن دورًا ووظيفة، وسيلة وغاية، فتربط بينه وبين الأرض تاريخا وجغرافيا وحاضرا وحضارة بإنسانيته وكرامته ومواطنته ووطنيته، تتقابل لتتكامل وتتماس لتتفاعل معادلاته فتشكل منظومة الذات العمانية، بأنفسها وآفاقها ويتجلى الخطاب العماني بهذه المعاني، تشكيلا ودلالة، اعتقادًا بأن «التنمية الحقيقية هي التنمية البشرية» وأن الإنسان هو المحور الأساسي والتأسيسي للرسالة التي جعلت السلطان قابوس يوقف عمره وفكره لترجمتها فكرًا يجادل الواقع جدلا علميا وعمليا، بالمعنى الفعال للعلم، وبالفعل الخلاق للعمل: «لست صاحب سلطة بل صاحب رسالة».
ظلت هذه الومضات تبرق في الذاكرة وتشعلها بل تزيدها اشتعالا وأنا أتحاور مع وزير الإعلام د. عبد المنعم الحسني -أثناء زيارتي الأخيرة إلى مسقط قبل أيام لأشهد مسار الانتخابات العمانية- وقد امتدت الحوارية وطالت وإن ظلت نقطة الارتكاز ثابتة ومحورية.. هي في كلمة واحدة (أنسنة الإعلام).. الكلمة غامضة، والغموض شفيف، والشفافية تغوي على الإبانة، وهو ما يتحسبه الوزير الذي هو علميا أستاذ الإعلام بجامعة السلطان قابوس (إن الإعلام هو إنسانيتنا.. إننا نعيش حاليا عصر الضجيج في المشهد الإعلامي العربي والعالمي).
إنه يتساءل: ما ذنب أطفالنا أن يشاهدوا في وسائلنا الإعلامية الصراخ والعنف والرعب، في حين أنهم جديرون بالمحبة، وأن نضمن لهم مستقبلا أفضل.. هذا دورنا كصناع رسالة إعلامية.. عندما نتحدث عن «أنسنة الإعلام» علينا أن نكون إنسانيين بيننا وبين أنفسنا وبعدها بيننا وبين العالم.. إننا أمام مرحلة علينا أن نتماسك جميعا فيها: (أفراد، ودول، ومنظمات) حتى نصل إلى بر الأمان.
هذه بعض خلاصة الرؤية التي تشغل فكر الرجل وسط المتغيرات العربية ودور المعلومة المتاحة في واقع ومستقبل الإعلام العربي ومفهوم الأنسنة في الإعلام الهادف إلى إيجاد مساحة للتماسك بين الأفراد والمؤسسات على المستويين الداخلي والخارجي.. لماذا؟ لأن القيم الإنسانية المشتركة هي التي «تقدمنا على الآخر» ومن ثم تهدف رؤية الإعلام العماني إلى صناعة المحتوى المتعلق بالبعد الإنساني الذي يشمل مختلف فئات المجتمع بالإضافة إلى تأصيل الأنسنة والتعايش باحترام وخصوصية.. وهي معادلة صعبة التحقق والتحقيق إلا على من يمتلك وضوح الرؤية وشمولية الأداة وقوتها.. وعلى من يستند إلى جدار لا ينقض ولا ينبغي له، إذ إن «الخطاب العماني جعل محور اهتمامه الإنسان والوطن ورفع شعار لا تهوين ولا تهليل والابتعاد عن خطابات الكراهية والطائفية».
الإعلام يبحث عن الجوهر الإنساني الذي طغى عليه وتجبر المظهر والانبهار والإبهار فكان الانهيار الإنساني إلا قليلا.. الإعلام يبحث عن البعد الإنساني ضمن الأبعاد التي لم تعد متجاورة أو متحاورة داخل إنسان هذه الحقبة من العصر، الذي صار الإعلام من أوضح مسمياته ومعالمه وملامحه.
الدنيا مفتوحة اتجاهاتها وأقطارها.. الفضاء مزدحم وبكثافة.. السباق محموم.. الأقمار الصناعية تضج من البث بلا حدود.. الخيال ضاع.. ضائع وسط الماديات الكثيفة.. غواية الصورة.. التزييف.. الإغراء.. الأقنعة.. تخليط الأوراق.. البركجة الدامية.. صناعة الإنسان.. بالاستبدال الآلي.. حتى العواطف الزوجية بكل خصوصيتها صنعوها وأوجدوا لها البدائل الإلكترونية!! (ضع ألف علامة استنكار واستفهام وتعجب).
ماتت الإنسانية داخل الإنسان..
فهل يقاوم الإعلام من أجل استعادتها؟
التحديات -جد- هائلة! ولا بد من المبادرات الذاتية والموضوعية والمواقف الجادة والحادة.
لمست حالة التشبع بهذه الهموم الإعلامية ذات الأبعاد الإنسانية.. لدى وزير الإعلام الدكتور عبد المنعم الحسني، الذي يتواصل مع وزراء الإعلام وأساتذته ورجاله الذين مهدوا الطريق وجاهدوا جهادا طويلا وقويا في المراحل التي مر بها الإعلام متزامنا مع تحولات المجتمع منذ إشراقات النهضة العمانية 1970 وكل مرحلة لها تحدياتها، وكلما شهد المجتمع تحولات جديدة، تضاعفت المسئولية على الإعلام في تحقيق المعادل الموضوعي بين المواكبة والمواجهة.. وطوال المسيرة الإعلامية العمانية كان المصباح الذي لم ينطفئ هو الكلمة المضيئة التي أعلنها السلطان قابوس في أول مؤتمر صحفي له عام 1974 مخاطبا وسائل الإعلام: (... أن تكون رسول سلام...).
الإعلام إذن إنسان...!.
ونزعة الأنسنة في الفكر العربي مصطلح يعود الفضل في طرحه في السياق التداولي الثقافي العربي للمفكر الكبير محمد أركون في كتابه (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) عام 2006.
لكن السؤل.. ماذا تعني أنسنة الخطاب الإعلامي العربي؟ وكيف انتقل هذا الفهم في الخطاب من كونه نزعة فلسفية أخلاقية؟
تتشعب التساؤلات التي لا تطفئها الإجابات الجاهزة..
وتتعاظم الإجابات التي تبحث عن أسئلة..
ونتواصل في المقال القادم إن شاء الله.