المشاكل والأزمات السياسية التاريخية الممتدة فى العالم العربى ما بعد الاستقلال، تعود إلى عمليات بناء الدولة فى مجتمعات انقسامية تعانى من النزاعات الأهلية الدينية والمذهبية والعرقية والمناطقية والقومية.
تشكلت الدولة فى عديد الحالات، على أساس الغلبة والقوة من بعض قيادات الاستقلال، الذين قاموا بتسييد انتماءاتهم وهوياتهم الأولية، ومعهم الموالون والزبائن فى تركيبة هياكل الدولة وأجهزتها، وإقصاءات مستمرة للمكونات الأخرى فى الغالب الأعم، لأنه لا توجد أسس وقواعد دستورية وقانونية فاعلة فى التطبيق تؤسس للمساواة
تشكلت الدولة فى عديد الحالات، على أساس الغلبة والقوة من بعض قيادات الاستقلال، الذين قاموا بتسييد انتماءاتهم وهوياتهم الأولية، ومعهم الموالون والزبائن فى تركيبة هياكل الدولة وأجهزتها، وإقصاءات مستمرة للمكونات الأخرى فى الغالب الأعم، لأنه لا توجد أسس وقواعد دستورية وقانونية فاعلة فى التطبيق تؤسس للمساواة والمواطنة وعدم التمييز بين المواطنين.
تمثيل بعض أبناء المكونات قام على أساس الموالاة والتبعية السياسية للزعامة السياسية، أو الانتماء إلى الحزب الحاكم، ومن ثم كانت تمثيلات بعض القيادات من المكونات الأولية فى الهياكل القيادية للحزب الحاكم، أو فى التشكيلات الوزارية، أو أجهزة الدولة، لا يعدو أن يكون رمزيا، ولا وزن فاعل لهم فى دائرة اتخاذ القرار، أو من يديرون العمل التنفيذى فى البلاد.
الأخطر أن الدولة ككيان رمزى يعلو على مكوناته وهياكله، تقلصت واندمجت فى النظام السياسى التسلطى أو الشمولى أو الانقلابى، الذى تم اختزاله فى شخص القيادة أو الزعامة السياسية –رئيس جمهورية أو ملك أو شيخ- وحوله مجموعة من مراكز القوى الفاعلة، التشكيلات التمثيلية –برلمانات أو مجالس شعبية أو استشارية فى بعض الدول- لا تعدو أن تكون أدوات لتمرير التشريعات التى يتم إعدادها فى دوائر السلطة التنفيذية، والأجهزة الأمنية، وغالبها تشريعات ذات طبيعة تسلطية وأمنية ترمى إلى تكريس أمن النظام والطبقة السياسية الحاكمة، ومصالحها ومعها الظهير الاجتماعى للنظام.
تشريعات لا تدور حولها نقاشات سياسية واجتماعية وفنية من حيث الفن والحرفة القانونية، غالبا ما يتم تعديلها عندما تطبق فى الواقع، ويكتشف عدم فاعليتها، ومن ثم تدفع إلى المزيد من تمدد الفساد وشبكاته، وقانون القوة الواقعى فى حل النزاعات خارج جهاز الدولة، أو من داخله، وفق قانون الرشوة والفساد والمحسوبية.
مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية، لعبت -ولا تزال- دورًا خطيرًا فى إشاعة ثقافة الإذعان والقبول والانصياع للطلاب فى المنزل والمدرسة والجامعة.. إلخ، وفى أجهزة الدولة/ النظام/ الحاكم الأيديولوجية التى تروج لأيديولوجيا التفاهة على النمط البعثى والساداتى والقذافى والجزائرى، أو فى الملكيات العائلة فى إقليم النفط وخارجه، تنشئة سياسية تدور حول الزعامة السياسية وتمجيدها، وبناء صورة نمطية تبجيلية لها تمثلها وكأنها محور السياسة فى بلاده والإقليم والعالم، وحكمته الاستثنائية، وتاريخه الوطنى.. إلخ.
من ناحية أخرى يتم كتابة تاريخ البلاد من خلال رؤية النظام ومؤرخى السلطة، وتشويه كتابة التاريخ الوطنى، وتحويل وقائع تاريخية عادية من تمرد أو انتفاضة إلى ثورة من خلال المجازات السياسية المفرطة، واللغة السياسية الأيديولوجية الإنشائية، وذلك من منظور النظام وزعامته السياسية وهو ما أدى إلى إشاعة الأساطير السياسية، وتشويه الوعى الاجتماعى والإدراك الجمعى لأجيال وراء أخرى.
من هنا نشأت الدولة الوطنية بعد الاستقلال هشة، وتعتمد على الأجهزة القمعية المادية، واستخدام أقصى درجات العنف المفرط ضد المعارضين السياسيين، وإقصائهم، بل وقتل بعضهم بدماء باردة. الطابع الشمولى والتسلطى للنظام أدى إلى هشاشة مفهوم الدولة وتمركزه حول الرئيس والملك ومراكز القوى داخل النظام، وغام مفهوم الدولة فى البنية الرمزية والإدراكية لغالبية الشعب، خاصة أن التطور الاجتماعى والاقتصادى والثقافى، لم يؤدِّ إلى التشكيل التاريخى للأمة فى الواقع الفعلى، باستثناء مصر والمغرب، حيث تشكلت الأمة المصرية عبر تفاعلات وصراعات سياسية وتاريخية، ثم تآكلت بعض مكوناتها الرمزية منذ عقد السبعينيات من القرن الماضى وإلى الآن، وكذلك دولة المخزن فى المغرب التى تعرضت لأزمات كبيرة ولا تزال وتؤدى إلى تآكل مفهوم الأمة.
نشأت الدولة الوطنية، تأسيسًا على بعض الهياكل التى أرساها الاستعمار الغربى البغيض البريطانى والفرنسى والإيطالى، فى العالم العربى. من هنا كانت الدولة تحت سطوة المكون الدينى والمذهبى والعرقى والقومى الغالب، وداخلها بعض المكونات المناطقية المذهبية على نحو ما نرى فى العراق وسوريا فى ظل البعث، وما بعد الاحتلال الأمريكى للعراق، وفى الجزائر.
من هنا يمكن القول إن دولة الطوائف الضعيفة والهشة فى لبنان، هى جزء من الهندسة السياسية الاستعمارية الفرنسية، والدولة المذهبية فى العراق تحت حكم البعث، ودولة المحاصصات الهشة التى رسمها بريمر الحاكم الأمريكى للعراق بعد الاحتلال. والدولة الشاوية فى الجزائر ما بعد بومدين، والدولة السودانية الهشة القائمة على قادة وبيوتات تنتمى إلى قبائل الوسط النيلى الثلاث منذ الاستقلال واستبعاد لكل مكونات السودان المتعدد عرقيا ودينيا ومناطقيا، وهى دولة تأسست على ثنائية الحكم المدنى ثم الانقلابات العسكرية، ثم انتفاضات شعبية وسقوط الحكم العسكرى، ثم حكم مدنى، وفشل سياسى واقتصادى واجتماعى، وانقلاب عسكرى، وهكذا، إلى أن استمر الحكم الانقلابى الإسلامى لحسن الترابى، وعمر أحمد حسن البشير، لمدة ثلاثين عاما حتى الانتفاضة السودانية الأخيرة، وتركيب القيادة الانتقالى، من مجلس سيادة، وحكومة انتقالية، ومجلس تشريعى انتقالى.. إلخ. دول هشة، وأنظمة سياسية شمولية وتسلطية إقصائية، أدت إلى استبعاد للكفاءات والمواهب، وانتشرت فى داخلها أشكال من الفساد الوظيفى، كالرشوة والاختلاس للمال العام، ووصل الأمر فى بعض الدول الصغيرة أن تصل عمولات بعض رجال الحكم البارزين إلى 20% من أى صفقة للدولة، أو المشروعات الخاصة، وذلك بخلاف الآخرين من رجال الحكم، وهكذا.
على الرغم من ذيوع أسماء ورموز الفساد بسبب ثورة وسائل التواصل الاجتماعى، إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى ردع هؤلاء الفاسدين، لغياب دولة القانون والحق، وأيضا لاحتكارهم قوة أجهزة القمع، وانتهاكات حقوق الإنسان المروعة التى يمارسونها.
فى لبنان أرقام الفساد والفاسدين من "ملوك الطوائف"، أو لوردات الطوائف، وصلت لدى بعضهم إلى 12 مليار دولار، الجميع غارق فى حمأة الفساد فى دولة هشة، ونظام سياسى طائفى، تحركه مراكز القوة الطائفية الفعلية، ذات الارتباطات السياسية الخارجية، واعتماد قادة النظام الطائفى على الزبائنية السياسية الداخلية، وعلى توزيع غنائم الفساد، وتبعية بعضهم واستقوائهم بدول خارجية، كالسعودية، وإيران، وسوريا، وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.. إلخ.
من هنا تبدو الانتفاضات الجماهيرية الراهنة، الوجه الآخر لفشل الطبقات السياسية الحاكمة، وعدم كفاءاتها، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسات الإقصائية لبعض المكونات الداخلية، والأخطر تزايد الفجوات الجيلية، بين الأجيال الشابة، وبين القادة والزعامات من كبار السن، وعدم قدرتهم على استقراء الواقع الاجتماعى وتحولاته على نحو ما يحدث فى لبنان، رئيس الجمهورية وصهره بعيدون عن التغير الجيلى، ولا يزال اللعب السياسى الطائفى بالأدوات القديمة ذاتها، والإصرار على تعيين صهره فى أى حكومة لبنانية تتشكل، اعتمادًا على تحالفه مع الثنائى الشيعى حزب الله وحركة أمل، وذلك فى محاولة من الرئيس وصهره، لإعداده لخلافته فى موقع رئيس الجمهورية القادم، رئيس جمهورية تجاوز التسعين من العمر، ولا يمتلك مهارات الباجى قائد السبسى رجل الدولة التونسى، ذي الخبرات والذى تجاوز التسعين من عمره، لكنه كان يمتلك بعضا من اليقظة السياسية، وذلك على الرغم من أنه ارتكب أخطاء كبرى، أدت إلى انفراط حزب نداء تونس.
الشيخوخة السياسية فى الهياكل القيادية فى العالم العربى أدت إلى استبعاد كفاءات من أجيال شابة، وأدت إلى موت السياسة الفعلى فى هذه الدول، وساعد على نمو الحركات الإسلامية السياسية، وجماعات العنف والإرهاب، وانتشار ثقافة الكراهية، والعنف ورفض التعدد الدينى والسياسى فى هذه المجتمعات.
من هنا تمثل الانتفاضات الجماهيرية الحالية، ديناميات جديدة، ستؤدى إلى تغيرات فى المستقبل نحو نمط من الوطنية الجديدة، ومعها أجيال ورؤى مختلفة عن وجوه وقادة الواقع السياسى المر فى هذه المنطقة التى تخلفت كثيرا عن دول أخرى فى آسيا، وإفريقيا جنوب الصحراء.