في هذا السياق التاريخي المضطرب، بدا لبعضهم أن هناك غيابًا وصمتًا للمثقف، واقع الحال يشير إلى أن المثقف المصري لعب دورًا نقديًّا بارزًا منذ عهد السادات، ومبارك لاسيما في عقد التسعينيات وما بعد، في نقد وتحليل النظام التسلطي وأجهزته وسياساته، والمطالبة بضرورة تجديد الدولة المصرية النهرية المركزية وأجهزتها، وتحليل ونقد السياسات الخارجية والاجتماعية، وتقديم البدائل المختلفة لتحسين أدائها، وإصلاح هذه المنظومة من السياسات العامة.
من ناحية أخرى، امتد دوره النقدي إلى الفكر الديني المتشدد، والمطالبة بضرورة تجديده أو إصلاحه ومعه المؤسسات الدينية، ناهيك عن نقد ومواجهة الفكر المتطرف وغلاة الدعاة والحركيين الإسلاميين السياسيين، ومنظريهم.
من هنا نستطيع القول إن المثقف المصري ظل يلعب دوره النقدي باقتدار، وفي استقلالية ومناورة مع ما هو سائد من أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وذلك في شجاعة ودونما خوف أو وجلّ من المخاطر المحدقة تجاه ما يبديه من آراء نقدية مستقلة، تطور دور بعض المثقفين المصرية إلى مستوى الانخراط في بعض الجماعات الاحتجاجية، كحركة كفاية، وأدباء وفنانون وكتاب من أجل التغيير، وتظاهر بعضهم في بعض التدفقات الاحتجاجية رافضين التوريث لموقع الرئاسة من مبارك لنجله جمال، وكذلك تمديد الرئيس لولاية جديدة.
مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي خلال العشرية الأولى من الألفية الجديدة، دخلت أجيال شابة على خط الاحتجاج السياسي، والسعي إلى تأكيد الحريات الفردية والكرامة والاحترام للإنسان المصري، كل هذه التفاعلات السياسية والجيلية لم تكن ممكنة لولا دور بعض المثقفين المصريين لاسيما المستقلين، وذلك حتى مشاركة بعضهم في انتفاضة يناير 2011، استمر دور بعض المثقفين النقديين في المرحلة الانتقالية الأولى والثانية في نقد الإسلاميين السياسيين في جماعة الإخوان، والجماعات السلفية من الإخوان المسلمين أو السلفيين أو من قادة الجماعات الإسلامية السياسية كالجهاد والجماعة الإسلامية.
وفي متابعة وتحليل السلوك السياسي للفاعلين الأساسيين في الساحة السياسية، وخاصة عند وضع التعديلات الدستورية لدستور 1971، ودستور 2012، وما انطوت عليه هذه العملية من اختلال واضطراب في المفاهيم، وصياغات عامة وغامضة، ووضع نصوص تساعد على عملية تغيير طبيعة الدولة المصرية ومحاولة تديينها، وتحويلها إلى دولة ذات طابع ديني، دور نقدي استمر طيلة مرحلة حكم الإخوان وحلفائهم من السلفيين، وذلك من خلال الكتابات الصحفية، والمداخلات التلفازية، والتعليق على بعض الوقائع السياسية.. إلخ.
بعض ممن يطلق عليهم مثقفين بالمعنى العام والغائم والمضطرب في التقاليد المصرية والعربية، لعبوا أدوارًا متواطئة مع جماعة الإخوان، بحثًا عن دور ومكانة لهم في المشاهد الجديدة، وذلك من خلال مشاركة بعضهم في الانتخابات البرلمانية، أو مجلس الشورى، ودخولهم في تركيبة كلا المجلسين بمساعدة ودعم جماعة الإخوان.
الصورة العامة وصخب المراحل الانتقالية الأولى والثانية، كانت تشير إلى بروز الخطاب السياسي المرئي من خلال القنوات الفضائية العربية والمصرية، وتمركز هذه النشرات الإخبارية والبرامج الحوارية على بعض من أطلق عليهم الخبراء، ومعهم بعض الناشطين في الحراك السياسي، ثم تمدد دور هؤلاء وأولئك، وقلة قليلة من الخبراء يمكن أن نطلق عليهم وصف المثقف والأغلبية عناصر وظيفية تعمل في الصحافة أو مراكز البحث السياسي والاجتماعي، لا شك أن دور "الخبراء" و"النشطاء" وحركيو الجماعات الإسلامية السياسية، سيطروا على الشاشات وهو ما أعطى انطباعًا بسيطًا أن ثمة تراجعًا لدور المثقف المصري النقدي.
ما زاد من هذا الانطباع الشائع أن التركيز الإعلامي كان يتم حول الوقائع السياسية اليومية، أو الحركة في الشارع الغاضب على ممارسات الإخوان والسلفيين، أو على دور الأجيال الشابة على وسائط التواصل الاجتماعي. في المرحلة الانتقالية الثالثة، لعب المثقفون دورًا مهمًّا في التمهيد لها ونقد سياسة الإخوان، والانقلاب الدستوري في نوفمبر 2012، والمشاركة في فعالياتها في 30 يونيو وما بعد.
يبدو أن تراجع تأثير دور المثقفين النقديين في الساحة التونسية، مرجعه أن خطاباتهم النقدية تركزت على الأطروحات العلمانية حول الدولة والعلاقة مع الإسلام، والتأكيد على حرية الرأي والتعبير والبحث العلمي، وحقوق المرأة التونسية، والمساواة مع الرجل، ونقد خطاب النهضة والسلفيين، في ظل ازدواجية خطاب راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، وفشل كوادر الحزب في إدارة حكومتين، لا شك أن دعم بعض المثقفين للرئيس باجي قائد السبسي، وحزب نداء تونس، أثر على صدقية خطابهم، بالنظر إلى الصراعات التي انفجرت داخل الحزب، ورغبة السبسي في توريث نجله في قيادة الحزب، وفشل الحكومة في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وازدياد تهميش المناطق المحرومة تاريخيًّا من التنمية، في الوسط والجنوب التونسي، وزيادة معدلات البطالة بين الشباب، ولاسيما الجامعي.
لا شك أن فشل الحكومة التونسية وحزب نداء تونس، وتكوين حزب يحيا تونس برئاسة يوسف الشاهد رئيس الحكومة، وتذري الأحزاب السياسية اليسارية وخطابها وهامشية دور مثقفيها، أدى إلى بروز فجوات بين خطاب بعض المثقفين التوانسة، وبين قطاعات اجتماعية واسعة ومناطق مهمشة عديدة. من هنا استطاع خطاب قيس سعيد الشعبوي القادم من خارج الطبقة السياسية أن يستقطب كتلا شابة من طلاب الجامعات الذين رأوا في حكومة يوسف الشاهد والطبقة السياسية الفاسدة، تعبيرًا عن الفشل الاقتصادي والاجتماعي، والانحراف عن شعارات الانتفاضة التونسية.
لا يزال بعض المثقفين التونسيين، يركزون على خطاب المقولات العلمانية العامة، أو على حقوق المرأة والجندر، بينما يركز الخطاب الشعبوي والديني على حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم يساهم ذلك نسبيًّا في حصار بعض المثقفين ودورهم النقدي في تونس.
لا شك أن دور بعض المثقفين التونسيين لا يزال حاضرًا وفاعلًا، لكن تأثيراته لما تعد مؤثرة كثيرًا على مسار الحياة السياسية التونسية. يبدو أيضا أن انصراف الأجيال الشابة عن الإعلام التقليدي والكتاب الورقي، ورحيلها إلى المجال العام الافتراضي، أدى إلى تهميش نسبي لدور المثقف التونسي في هذه المرحلة من تطور البلاد السياسي.
(للحديث بقية)