ولكن وراء هذا الطابع التوثيقى الصارم (وكأن مؤلف الروايات الثلاث يخشى أن ينسى تفصيلة من تفاصيل الذاكرة)، هناك رؤية واعية تحاول أن ترصد كيف خرج التعصب الطائفى والتطرف من رحم الفقر والبطالة والفوضى، تكشف الأحلام المجهضة أن شيئا لم ولن يتغير، وكأن الزمن ثابت. أبطال الروايات الثلاث تخرجوا فى كلية الآداب،
ولكن وراء هذا الطابع التوثيقى الصارم (وكأن مؤلف الروايات الثلاث يخشى أن ينسى تفصيلة من تفاصيل الذاكرة)، هناك رؤية واعية تحاول أن ترصد كيف خرج التعصب الطائفى والتطرف من رحم الفقر والبطالة والفوضى، تكشف الأحلام المجهضة أن شيئا لم ولن يتغير، وكأن الزمن ثابت. أبطال الروايات الثلاث تخرجوا فى كلية الآداب، لا يهم التخصص، لغة عربية، فلسفة، تاريخ، ولكن الأهم أنهم لم يتحققوا على الإطلاق، ربما زادهم التعليم إحساسا بمأساتهم، وبواقعهم المؤلم، فى «عقد الحزّون» يعمل خريج الآداب فى القاهرة أجيرا، مثل أى صنايعى أو فاعل، وفى «زهرة البستان» يتوه الشاب الجامعى بين دهاليز المثقفين والمدعين وبقايا اليسار الغارب، بعد أن جاء هاربا من قريته البائسة، ومحملا بمأساة مصرع شقيقه المتطرف، وفى «أرض النبى» يتخلى بطل الرواية عن الشعر، وتحاصره زوجة سليطة اللسان، تزوجها تسديدا لدين مرض والده الخطير، ولكنه يصبح عاجزا حتى عن طلاقها من أجل طفلته، ثم يشهد، عاجزا، فتنة طائفية مروّعة، تبدو كأنها الحصاد المرير لكل شىء سيئ ومحبط. الصعيد فى الروايات الثلاث ما زال يختنق بالفقر والجهل والعجز، وهناك خيط واضح يربط بين الروايات، يشهد ويسجل ويتنبأ ويحفظ من الضياع ثقافة وتفاصيل حياة البسطاء والغلابة Top of Form.
فى رواية «عُقد الحزّون» بطل اسمه يحيى قادم إلى القاهرة ضمن ترحيلة من العمال، قريته اسمها نجع الجبّانة، وحياته كما يحكى عنها خاوية تقريبا حتى بعد أن أفلت بليسانس فى الآداب قسم اللغة العربية، تفتتح الرواية رسالة يبعثها يحى (الذى لا يحيا تقريبا)، يبرئ فيها ساحته من تهمة سرقة الرجل الذى يقوم بتوفير العمل للصعايدة فى أماكن مختلفة، تدريجيا نكتشف أن صاحب الرسالة متعلم، وأنه عاش متبطلا، فلم يجد بدًّا سوى أن يعمل بعد حياة فارغة فى قرية فقيرة، ووسط أسرة متواضعة، من الواضح أنه لم يجد حتى واسطة تمنحه عملا وراتبا هزيلا، حاول أن يقوم بتوزيع الخطابات فى قريته، انضم إلى شلة الكيف، تخرج من الفوضى والفقر إرهاصات تطرف دينى يحمل رايتها اثنان من الفاسدين الشواذ، يريدون التكفير عن سيئاتهم، يصعدون إلى المنبر، يمتلكونه، فى خلفية الصورة شخصية العم مهنى الذى خرج فى ترحيلة للعمل فى الواحات، ولكنه اختفى ولم يعد، يحيى يعانى من تريقة والده، الأب ينتظر أن يعمل ابنه، لا أن يعيش عالة عليه، هذا وصف بسيط للحال البائس للأسرة: «أمى لا تملك فى البيت شيئا، سوى هدومها ولقمتها، وفى العشة التى على السطح تعيش خمسة أزواج من الحمام، ومثلها من الأرانب والدجاج، تأكل الغلة (القمح والشامى)، ويدفع ثمنها أبى، وهو صاحب التصرف فيها، ومقابل رعاية أمى لهذه الطيور، سمح لها بالتصرف فى بيض الدجاج، وبالتالى من حقها أن تدخر ثمن البيض لتشترى زجاجة بيبسى، إذا أحسّت بالحموضة فى فم المعدة، أو تعطينى 50 قرشًا أشترى بها سجاير، وإذا قامت شوطة الفرُّوج، وماتت الكتاكيت والديوك الصغيرة، قضى أبى شهرا على الأقل فى حزن شديد، واختصر من نفقات أكلنا وشربنا لتعويض الخسائر».
رواية «زهرة البستان» التى تبدأ باغتيال مناضل شيوعى مصرى وزوجته، تضع بطلها الصعيدى عادل أيضا بين مأساته فى القرية، حيث ينضم شقيقه إلى الجماعة الإسلامية، يقبض عليه، ويتم تعذيبه، وتموت الأم وخلفها الأب، حتى ميراث عادل يصبح معلقا فى الهواء بسبب جشع الأخ الأكبر، وبين معاناة عادل عندما يأتى حاملا قصصه وأحلامه إلى القاهرة، ليشهد غروب اليسار ورموزه من الجيل القديم، ومن الأجيال الأحدث، يمارسون الثرثرة، ويشربون البيرة والويسكى والمخدرات، يكتشف عادل قاع المدينة، بنفس الدرجة التى يكتشف فيها من يفترض أنهم نخبتها المثقفة، يعمل بالصحافة، يعيش حكاية حب غير ناجحة، يترك خالد خطوطا غير مكتملة، هل أراد أن نكمل نحن بخيالنا بقية المأساة؟ هل زهق من الكلام عن إحباط ونذالة بعض المثقفين؟ نهاية مبتورة، قادم من الفقر إلى متاهة العاصمة، قال له والده يوما: «لو شربتُ الدخان لما وجدتم طعاما»، من أقصى اليمين الذى يمثله الأخ القتيل، إلى أقصى اليسار المهزوم، ستظل رحلة عادل غير سارة رغم زواجه، ورغم استقراره فى القاهرة.
فى الرواية الثالثة «أرض النبى» يبدو حمزة مدرس التاريخ فى ورطة أصعب، كان يتمنى أن يصبح شاعرا، فصار زوجا بائسا لامرأة تزوجها دون إرادته، وتزوجته دون حب، كانت أسرته مدينة لوالدها بأموال علاج الأب، وسط طوفان المعارك الصغيرة، والمكائد النسائية، تلمع فى الأفق شخصية لينين وشقيقته لطيفة، شيوعيان من أسرة عامل شيوعى، ارتحلا من المنيا إلى القرية لنشر الثقافة والموسيقى، بينما يتصاعد الغزو الإخوانى فى مواجهة مشروعات كنسية طموحة، يكتسح التطرف الصورة، وتشتعل قرية بنى عيش التى هزمها الفقر والمرض والجهل، قبل أن يحرقها ابنهم الشرعى: التعصب الدينى. ترسم الروايات الثلاث بدرجة عالية من التفاصيل الخشنة وقائع الحال، يستخدم خالد إسماعيل مصطلحاته الصعيدية، ويلجأ كثيرا إلى العامية لإيصال الصورة والتعبير، فى «عقد الحزون» لجأ إلى حيرة بارعة بشرح وتفسير بعض الأمور فى النهاية، والغريب أنه أغفل شرح معنى «عقد الحزّون» الأسود الذى تلبسه المرأة تعبيرا عن الحداد، من أبرز الملاحظات أيضا الإسراف الشديد فى التفاصيل وخصوصا فى رواية «أرض النبى»، هذه الاستطرادات أدت بالتأكيد إلى ترهل السرد، وأفرزت تفريعات كثيرة شوشت القارئ، ولكن المؤلف نجح فى المقابل فى تقديم صورة صادقة وقوية لمجتمع الصعيد بحياتيه السرية والعلنية، بنقاط قوته وبعناصر تفرده، وقدم نماذج نسائية مدهشة ولا تنسى، تؤكد ما أكرره دائما من قوة المرأة الصعيدية، ودورها المحورى، على عكس ما يعتقد كثيرون.
«زهرة البستان» مجلد من روايات ثلاث تستحق القراءة والمناقشة، إنه الصعيد دون رتوش أو تزويق، الصعيد الحقيقى الذى يسكن شخصياته إلى الأبد، سواء ظلوا فيه أو ارتحلوا عنه. الصعيد الذى لا يريد أحد أن يراه إلا فى المسلسلات.