قبل الإجابة عندي ملحوظة أود تحريرها بشأن السينما المصرية. تتلخص هذه الملحوظة في أن صناعة السينما لدينا نشأت في ظل احتلال انجليزي بغيض، الأمر الذي جعلها سينما محافظة باستمرار، لا سينما ثورية تتجرأ على اقتحام الممنوعات خاصة فيما يتعلق بقضايا السياسة والتحرر والعدالة الاجتماعية، لأن المنتجين والمخرجين
قبل الإجابة عندي ملحوظة أود تحريرها بشأن السينما المصرية. تتلخص هذه الملحوظة في أن صناعة السينما لدينا نشأت في ظل احتلال انجليزي بغيض، الأمر الذي جعلها سينما محافظة باستمرار، لا سينما ثورية تتجرأ على اقتحام الممنوعات خاصة فيما يتعلق بقضايا السياسة والتحرر والعدالة الاجتماعية، لأن المنتجين والمخرجين كانوا يعرفون جيدًا أن الاقتراب من هذه القضايا يعرضهم لمقص الرقيب.
أظنك لاحظت أيضا أن السينما المصرية لم تقترب من أحمد عرابي رغم أنه كان قائدًا لانتفاضة مهمة، كما لم تخصص سوى فيلم واحد فقط يستعرض حياة وكفاح مصطفى كامل، أما محمد فريد وسعد زغلول ومصطفى النحاس فقد تعاملت السينما معهم بإهمال تام للأسف الشديد، فلم نشاهد أحد الممثلين متقمصا شخصية هؤلاء السياسيين المكافحين في تاريخنا النضالي.
اليوم ونحن على أبواب الذكرى الخامسة والأربعين لوفاة عبد الناصر، نكتشف أن طيف الرجل لم يتألق على شاشة السينما سوى مرات قليلة للغاية برغم حضوره الطاغي في وجدان الجماهير منذ أعلن تأميمه قناة السويس في 1956، وحتى هذه اللحظة، حيث ترفع صورته في معظم المظاهرات المطالبة بالعدل والكرامة والحرية.
بدأ صوت عبد الناصر الحقيقي يضيء شاشة السينما مع عرض فيلم (بور سعيد/ 1957) للمخرج عز الدين ذو الفقار، إذ نسمعه وهو يعلن قرار تأميم قناة السويس، فتنهمر الفرحة في صدور الملايين، ثم يتكرر الصوت والقرار في فيلم (الباب المفتوح/ 1963) للمخرج بركات، لكننا لا نرى وجه القائد أو من ينوب عنه.
بعد رحيل عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 تبدأ السينما في عهد السادات تنال من تجربة الرجل وتصوره طاغية يعتقل الناس ويعذبهم في المعتقلات، لكن دون أن تظهر صورته أو يتولى أحد تجسيد شخصيته (الكرنك/ 1975) للمخرج علي بدرخان، و(احنا بتوع الأوتوبيس/ 1979) للمخرج حسين كمال على سبيل المثال.
في هذه الأفلام كان الهدف واضحًا وهو تحطيم الصورة النبيلة للزعيم حتى يسهل اتخاذ الخطوة الأخطر وهي الانقلاب على سياساته وتوجهاته، وهو ما كان بكل أسف، إذ إن هناك الكثير من الشباب يطلقون الأحكام على عبد الناصر متكئين على هذه الأفلام فقط، دون أن يتأملوا تجربة الرجل ككل. لكن بعد رحيل السادات بزمن طويل تجرأ الكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن والمخرج القدير محمد فاضل وقدما تحفتهما الخالدة (ناصر 56) في عام 1996 ليحقق الفيلم نجاحًا منقطع النظير في السينما، خاصة وأن النجم الراحل أحمد زكي تمكن من اقتناص أبرز الملامح النفسية للزعيم الراحل وتقمص حالته بشكل يدعو للانبهار بحق.
في عام 1998 حقق المخرج السوري أنور قوادري فيلم (جمال عبد الناصر) مستعينا بالنجم خالد الصاوي ليلعب دور الزعيم، ورغم تفرد خالد وتمكنه في تجسيد شخصية عبد الناصر، إلا أن الفيلم لم يحقق النجاح المأمول نظرًا لضعف السيناريو وركاكة الإخراج.
على أية حال.. ليس عندي شك في أن شخصية عبد الناصر كنز لا ينضب، ومن ثم فالسينما لن تتوقف عن الالتفات إلى هذا الزعيم النادر مرة ومرات في السنوات المقبلة.