تعرضت يناير لما نعرفه جميعًا لكن الثورة كطريق للتغيير وفكرة سكنت عقل ووجدان الكثيرين وأنا منهم، تعرضت لإعادة قراءة متأنية بمعنى أني سألت نفسي سؤالًا هل الثورة في بلادنا هي أفضل طريق التغيير وأقلها كلفة، أو بمعنى آخر هل الثورة تصنع تغييرًا نحو الأفضل بالفعل ؟ سيحتج البعض بالعديد من الأمثلة، لكن الكاتب
تعرضت يناير لما نعرفه جميعًا لكن الثورة كطريق للتغيير وفكرة سكنت عقل ووجدان الكثيرين وأنا منهم، تعرضت لإعادة قراءة متأنية بمعنى أني سألت نفسي سؤالًا هل الثورة في بلادنا هي أفضل طريق التغيير وأقلها كلفة، أو بمعنى آخر هل الثورة تصنع تغييرًا نحو الأفضل بالفعل ؟ سيحتج البعض بالعديد من الأمثلة، لكن الكاتب والمؤرخ الأمريكة البارز كرين برينتين في كتابه المهم "تشريح الثورة"، وهو يتتبع مآل وطبيعة أهم أربعة ثورات مرت في تاريخ البشرية: الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة البلشفية والحرب الأهلية الإنجليزية، ولفتني أنه يعد الحرب الأهلية ضمن تلك الثورات ولا أعلم كيف تكون الحرب الأهلية ثورة ! هل باعتبار أن الثورة تؤدي إلى الحرب الأهلية والعكس أم ماذا أم أن المألات المشتركة هي التي صنعت المشابهة بينهما، وبعد استعراضه للمراحل التي تمر بها الثورات وتشريح كل مرحلة تشريحًا دقيقًا يصل إلى نتيجة قد تكون صادمة، هي أن الثورة تعود في النهاية لنظام أقرب للنظام الذي قامت عليه، الثورة في الأساس وسعت إلى تغييره بنظام أفضل، لكن مع تطبيق بعض الإصلاحات التي تطيح بأسوأ ما كان عليه النظام القديم (في تقديري أن الثورة المصرية إذا صحت التسمية جاءت بالأسوأ، ولم تحقق إصلاحات حقيقية مقارنة بما كان عليه النظام السابق وهذه من المفارقات المصرية) يواصل الكاتب "غير أن الوضع في مجمله يصبح مشابهًا لفترة ما قبل الثورة، ولا يمكن وصف التغيير الذي تحدثه الثورة بالجوهري". هذه شهادة باحث وعالم ليس عضوًا في أمانة سياسات الحزب الوطني، أو عضوًا بالمجلس العسكري أو أحدا ممن ينتمون للنظام القديم، بالطبع أيضًا هذه ليست صك براءة لنظام مبارك الذي أعتبره مع عوامل أخرى وعبر عقود خرب كافة مناحي الحياة في مصر وقوض فرص التغيير السلمي من خلال المؤسسات.
عندما أتأمل أحوال مصر في ضوء ما تقدم أقول هذه ليست مصر التي حلمنا بها ولها، في واقعها السياسي يبدو النظام القديم وقد أعاد تنظيم صفوفه دون أن يتجشم حتى كلفة أصباغ جديدة يجمل بها وجهه الذي نعرفه جيدًا، تراجعت المشاركة السياسية بعد تقدم عنوان محاربة الإرهاب على كل العناوين، أصبح خطاب النظام في مواجهة كل مطالبة بالالتفات للحقوق والحريات والمشاركة السياسية الحقيقية يتعلل بأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، قبل أيام من الاستحقاق الثالث لخريطة الطريق التي صنعت سياقًا أكثر التباسًا مما جرى في السابق أقصد معركة انتخاب برلمان مصر، الذي من المفترض وفقًا لنصوص الدستور أن يكون شريكًا في السلطة كما لم يحدث في عقود سابقة، يتبجح البعض دون خجل ويطالب بتغيير مواد الدستور لكي تنقل مزيد من السلطات لرئيس الجمهورية الذي يتمتع بالفعل بصلاحيات واسعة عظمتها خلفية انتمائه لمؤسسة عسكرية يحترمها الشعب ويقدرها، بما يعزز الحاجة إلى تهذيبها وليس إطلاقها كما يدعو البعض لاشك أن بناء السلطة الحالي الذي يجعل الرئيس هو كل شيء، السياسة الداخلية والخارجية تسكن خلايا عقله وحده دون مؤسسات ومراكز أخرى تعكس فكرة الإدارة المؤسسية الغائبة التي تليق بمصر بعد ما يسميه البعض بثورتين.
لاتوجد شراكة حقيقية في صناعة القرار السياسي، لانجد ظلًا للنخب السياسية الوطنية ولو بالتشاور في أي قرار سواء تعلق بطريقة تشكيل البنيان الوزراي الذي لايعلم أحد كيف تشكل أو لماذا. تخلى النظام حتى عن الصيغ الشكلية التي تبرز احترام الرئيس للنخب السياسية أو الأحزاب أو المواطن، ونحن بالطبع لا نحاكم المقال أو الخطاب الرئاسي بل الحال والسلوك الرئاسي في مواجهة كل هؤلاء، مثلًا في أهم المحكات التي تبرز حضور المواطن في الشأن العام وصناعة القرار الموازنة العامة للدولة، صدر في التاسع من هذا الشهر الجاري تقرير عن مستوى الشفافية أصدرته منظمة الموازنة الدولية، من خلال بعض العناصر تستطيع أن تحدد مستوى المشاركة التي نتحدث عنها، خصوصًا وأنه وفقًا لموازنة العام 2015/2016 يسهم المواطن في هيكل إيرادات الموازنة بنسبة 68 % وهى ربما النسبة الأعلى في العالم مقارنة بما يحظى به من حقوق التقرير يحدد التقرير الدولي الشفافية من خلال العوامل التالية:
1- مشاركة المواطن والمجتمع في اتخاذ القرارات حول كيفية جمع الموارد العامة والإنفاق.
2- قدرة المؤسسات التشريعية وجهاز المحاسبات على مراقبة الموازنة، وكم ومستوى التفاصيل التي تعرضها الموازنة.
3- توقيت نشر معلومات الموازنة التي يتم إتاحتها للمواطنين عبر مستندات رئيسية مثل بيان ما قبل الموازنة، الموازنة المقترحة، موازنة المواطن، الموازنة المعتمدة، التقارير الشهرية المالية، التقرير نصف السنوي، الحساب الختامي، تقرير المراجع.
خلت قائمة الدول العشر الأولى في مستوى الشفافية من أي قطر عربي أو إسلامي، بينما احتفظت 5 دول بمراكز متقدمة في العشر دول الأخيرة في مستوى الشفافية بينها مصر، التي كانت فرص الجمهور والمجتمع المدني في المشاركة في وضع الموازنة لديها صفر، وهو نفس التصنيف فيما يتعلق بمراقبة السلطة التشريعية للموزانة.
هذا الملمح الكاشف وبالأرقام يقول أن هذه ليست مصر التي نريدها بعد كل ما جرى، نعم قد لا تكون الثورة وفقًا لما تقدم من رأي أفضل الطرق لكن آخر العلاج الكي، ونحن اكتوينا بما يكفي وشعبنا مسالم لا يحب الدماء التي هي قوام كل الثورات، لكن لا يقبل مواطن حر بهذا الأداء السياسي الحالي ولا بشكل الحياه في مصر في كافة المناحي، لابد من ثورة في العقول والثقافة والسلوك سواء للمواطن أو النظام نحو المستقبل لنظفر بمصر التي نريدها بحق.