فالشيء الأكيد هو أن السلطة السياسية الحاكمة لم تحرص على توحيد صفوف منتسبيها من الأطباء في جهاز الدولة الإداري، ومن فلول النظام السابق وغيرهم من الأطباء، الذين يعتبرون أنفسهم جزءا من هذه السلطة، فكانت النتيجة معسكرًا واحدًا يخوض الانتخابات بثلاث قوائم متناحرة مهلهلة،
فالشيء الأكيد هو أن السلطة السياسية الحاكمة لم تحرص على توحيد صفوف منتسبيها من الأطباء في جهاز الدولة الإداري، ومن فلول النظام السابق وغيرهم من الأطباء، الذين يعتبرون أنفسهم جزءا من هذه السلطة، فكانت النتيجة معسكرًا واحدًا يخوض الانتخابات بثلاث قوائم متناحرة مهلهلة، وراء هذا الأداء أسباب متنوعة، ولكن الأساس، فيما أظن، هو أن هذه السلطة لم يحن بعد وقت احتياجها لمثل تلك المواقع الجماهيرية. ففي الحقيقة، يبدو أن رصيدها من الجماهيرية ما زال يسمح لها بإملاء تصوراتها دون الحاجة لموافقة هذه المجموعة أو تلك من المواطنين هنا أو هناك، وأعتقد أن هذا الحال لن يدوم طويلا، فأحد الحلول المقترحة لتقليل العجز في الموازنة هو تقليص الإنفاق العام وساعتها ستضطر السلطة لمحاولة السيطرة على أية مواقع ممكنة، وفي مقدمتها النقابات طبعا.
قائمة الاستقلال من الناحية الأخرى، بات واضحا أنها قد تحولت لماكينة انتخابية هادرة، فلقد استطاعت المنافسة في كل المواقع الانتخابية بدون استثناء، وهذا في حد ذاته عامل حاسم، بصرف النظر عما ترفعه من مطالب، بكل تأكيد فإن قدرة هذه القائمة على المنافسة في كل المواقع لم تولد من فراغ، فتاريخ منتسبي هذه القائمة هو أمر قد تم تثمينه غاليا من قبل الأطباء، على أن الأمر الأهم من وجهة نظري، هو تقدير الأطباء الكبير لفكرة استقلال هذه القائمة عن جهاز الدولة الإداري، وهو ما يعكس حسا نقابيا فريدا لدى معظم الأطباء، ولمَِ لا، فثمة ثورة رائعة لا تزال أطيافها تتلألأ، حتى وإن كانت تتلألأ مودعة.
قائمة التحرير، في كلمة مختصرة، هي انشقاق أكثر راديكالية على قائمة الاستقلال، وهي ربما كانت أكثر استقلالا من القائمة الأم عن منتسبي السلطة وأجهزتها، وطبعا كرفاق الأمس التزم الفريقان بسياسة حسن الجوار بينهما، لم تستطع قائمة التحرير المنافسة غير في عدد محدود جدا من المواقع، فبدت كأنها في بث تجريبي، فحتى وإن كان برنامجهم الانتخابي أكثر تميزا في نقطة ديمقراطية العمل النقابي، فإن الأطباء لم يأخذوهم علي محمل الجد، لأنهم فشلوا في تقديم أنفسهم كبديل حقيقي.
المفاجأة الكبيرة، من وجهة نظري، هي ما عرفته بعد ذلك عن تاريخ هذا النقيب العام الفائز عن قائمة الاستقلال حسين خيري، الذي أعطيته صوتي عن طيب خاطر، فالرجل الذي يعمل كأستاذ جراحة وعميد سابق لقصر العيني لا يعمل في القطاع الطبي الخاص، سواء كان عيادة أو مستشفي، وهذا أمر نادر الحدوث ندرة شديدة، اللهم إلا إذا أضفنا له حالة محترم آخر هو محمد غنيم، أستاذ الكلى والمسالك الغني عن التعريف، وكأنهما قد اختارا إراديا الاكتفاء بالعمل في قطاع الطب العام، وهو اختيار لا يخلو من دلالة، وهذا ما سأوضحه حالا.
بكل تأكيد إن أغرب شيء قد حدث في الجولة الأخيرة هذه، هو أن نسبة مشاركة الأطباء في انتخابات نقابتهم قد تدنت لحدود الستة في المئة من إجمالي من لهم حق التصويت، وهي نسبة أقل من نسبة المشاركة في الجولة السابقة التي جرت منذ عامين، وتفسيري لهذا التدني المتزايد لنسب المشاركة هو أن البرامج الانتخابية لتلك القوائم هي برامج شديدة التشابه، في الحقيقة إنها ليست فقط متشابهة ولكنها أيضا مستنسخة من برنامج الإخوان المطلبي العقيم، وأظن أن هذا النهج قد وصل لنهاية المطاف، وأعتقد أنه قد آن الأوان لتجاوز هذا المسار لصالح برنامج سيتصدى لبيت الداء في منظومتنا الطبية، كما يعرفه جموع الأطباء، برنامج كفيل في حالة طرحه بإعادة جموع الأطباء للمشاركة الفعالة في الحركة النقابية، برنامج كهذا سيتصدى لواقع الأطباء الأليم، وهو أن ثمة نخبة من الأطباء، لا تتجاوز العشرة في المئة من الأطباء تعالج خمسين في المئة من المرضى، تاركة الخمسين في المئة الأخرى من المرضى الأشد فقرًا ليتزاحم عليهم بقية الأطباء، أي الغالبية العظمى من الأطباء، ولا سبيل لحل هذه المعضلة، من وجهة نظري، إلا بمنع من يعمل من الأطباء في قطاع الطب العام (جامعة أو وزارة الصحة) من العمل في نفس الوقت في قطاع الطب الخاص، وذلك منعا لإساءة استخدام قطاع الطب العام، كما اختار حسين خيري ومحمد غنيم عن بصيرة متجاوزة، وهو مبدأ مأخوذ به، على أية حال، في المنظومات الطبية المحترمة في معظم بلاد العالم، أو كما علقت زميلة على أحد مقالاتي، لن نعيد اختراع العجلة.