أتذكر في فترة ما، أن كاهن الكنيسة القريبة من بيتنا يأتي إلينا في زيارات «افتقاد»، وهى تعني -كنسيا- الرعاية والاهتمام من جانب الأب الكاهن للأسرة المسيحية، والذهاب إليها للتشجيع على الصلوات وتأدية الطقوس وغيره. كان ضمن المشاهد المتكررة في هذه الزيارات، تدوين الكاهن لبعض بيانات
أتذكر في فترة ما، أن كاهن الكنيسة القريبة من بيتنا يأتي إلينا في زيارات «افتقاد»، وهى تعني -كنسيا- الرعاية والاهتمام من جانب الأب الكاهن للأسرة المسيحية، والذهاب إليها للتشجيع على الصلوات وتأدية الطقوس وغيره. كان ضمن المشاهد المتكررة في هذه الزيارات، تدوين الكاهن لبعض بيانات الأسرة في ورقة صغيرة بأجندته الخاصة، تشمل الاسم وعدد أفراد الأسرة، وقد يسأل عن وظيفة الأب ومصدر الدخل، لأنه في حال كانت الأسرة فقيرة تقوم الكنيسة بمساعدتها.
هذا كل ما كنت أعرفه فقط عن فكرة الافتقاد. لكن الورقة الصغيرة التي يحملها الكاهن تطورت مع الوقت إلى استمارة مطولة تتضمن بيانات كثيرة، وتسمى بـ«استمارات العضوية الكنسية»، وأصبحت الكنيسة تحدد بناءً عليها، عدد الأقباط في مصر.
فأثناء اجتماع البابا تواضروس بوفد الإعلاميين الأفارقة في مايو الماضي بالمقر الباباوي، سألته مراسلة إحدى الصحف المصرية: «كم عدد الأقباط في مصر؟»، فأجاب: «15 مليونا»، وعند استفسارها عن طريقة معرفة هذا الرقم في ظل عدم إعلان الدولة رسميا لأي عدد حاليا، قال استنادًا إلى «العضوية الكنسية».
قبل 9 سنوات، كان البابا شنودة قد استخدم نفس المصطلح وهو «العضوية الكنسية أو كشوف الافتقاد» في حديث له على قناة «ontv»، حيث قال وقتها: «الكنيسة تعرف أعداد الأقباط عن طريق كشوف الافتقاد التي تعد بمثابة تعداد داخلي للأسر المسيحية التابعة لكل كنيسة.. والعدد الآن 12 مليونا، ونحن نستطيع معرفة شعبنا، ولا يهمنا الرقم المعلن (يقصد هنا الرقم المعلن من جانب الدولة التي يمثلها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء)».
انتبهت لحديث البابا تواضروس في هذا الاجتماع، لأن كشوف الافتقاد وتلك الورقة الصغيرة لا ترتقي أبدًا لفكرة «تعداد»، وإذا كان الأمر أصبح أكثر تطورًا باستمارات للعضوية، فأنا وأسرتي وكثيرون أعرفهم لم يملأوا أو يوقعوا على مثل هذه الاستمارات، وهو ما يعني أننا خارج تعداد الأقباط الذي يتحدث عنه البابا تواضروس ومن قبله البابا شنودة.
فما آلية العمل بهذا النظام وما ضوابطه؟ وهو -بحسب ما يمكن فهمه من أحاديث الباباوات- «بمثابة جهاز تعداد للكنيسة يوازي عمله الجهاز الرسمي للدولة الخاص بالتعبئة والإحصاء، وتستند إليه القيادات الكنسية في إعلان عدد الأقباط بشكل رسمي تتحمل مسؤوليته تمامًا».
للإجابة عن هذا السؤال، قمت بثلاث تجارب مع «العضوية الكنسية» في ثلاث كنائس بمناطق مختلفة.

التجربة الأولى
بحكم معرفة إحدى الكنائس (في شمال شرق القاهرة) بي وبأسرتي، ذهبت إليها أولًا، وطلبت ملء الاستمارة، وهذا لاستنتاج مسبق -يتبين بعد ذلك أنه خاطئ- بأنه لا يمكن أن أقوم بعمل عضوية إلا في الكنيسة التابعة لها، والتي أواظب على حضور الصلوات بها.
رحب الكاهن بذلك، وأخذت استمارة بيانات أسرة، لأنه لا يوجد استمارة تخص شخصا بمفرده، وتطلبت ذِكر (الاسم - الرقم القومي - المؤهل - الكلية - الجامعة - الخدمة - كنيسة المعمودية - أب الاعتراف - المهارات - اسم والدة الأب - وتاريخ الوفاة لو البيانات تخص شخصا متوفى). هذه البيانات لكل شخص من أفراد الأسرة على حدة.
ملأت بعض البيانات وسلمتها دون إرفاق أي مستند كشهادات الميلاد أو المعمودية أو بطاقة الرقم القومي، لتؤكد صحة المعلومات المذكورة.
ولم يضع نظام الاستمارات المطبق في هذه الكنيسة منذ أشهر قليلة طريقة لتحديث البيانات لمراعاة وجود مواليد ووفيات ومسافرين. فقط يرفع الكاهن بيانات الاستمارات الورقية على «سيرفر» خاص بذلك، ويمثل قاعدة البيانات التي يتم إرسالها للأسقف المسؤول عن كنائس المنطقة ليعرف العدد.
أعطاني الكاهن أكثر من استمارة للجيران المسيحيين الذين أعرفهم، معقبا: «مش كل الناس عملت الاستمارات، والأعداد الموجودة عندنا من خلال معرفتي الشخصية بعدد كل أسرة في المنطقة بناء على زيارات الافتقاد.. جزء منهم بيرفض يملى البيانات أو يكتبها كاملة للخوف من استغلالها».
ويمكن في حال موافقتي، استخراج كارنية العضوية للذهاب إلى بيوت المسيحيين في المنطقة للافتقاد وجمع بياناتهم مثلما يقوم بعض الخدام بالكنيسة.

استمارة العضوية الأولى
كان آخر تعداد أعلنه «المركزي للتعبئة والإحصاء» للأقباط رسميا عام 1986 ووقتها مثلوا نحو 6% من العدد الكلي، وتوقف بعد ذلك، بعد أن أوصت اللجنة الإحصائية بالأمم المتحدة بأن لا يلزم التعداد السكاني الذي يجريه الجهاز المواطن بالإجابة عن سؤال ديانته بل من الممكن أن يكون يكون سؤالا اختياريا.
رئيس الجهاز، اللواء أبو بكر الجندي، قال في أحد حواراته الصحفية: «هذا الرقم المعلن عام 86 رفضته الكنيسة وقتها، واتهمت الدولة آنذاك وتباعا بتسييس عملية التعداد وعدم الإعلان عن عددهم الحقيقي».

ومنذ هذا الوقت، لم يُعرف للأقباط تعداد سوى الذي يصرح به البابا، ففي 2008 كان 12 مليونا، ثم 13.5 في 2013، وصولًا إلى 15 مليون، حتى إن هناك أزمة وقعت بعدما صرح اللواء أبو بكر الجندي عام 2012 بأن عدد الأقباط 5.1 مليون نسمة، فاعترضت الكنيسة وأكدت أن عددهم يتراوح ما بين 15 و18 مليونًا، وطالب الأنبا باخوميوس، القائم بالأعمال الباباوية وقتها، رئيس الجهاز بإعلان العدد في كل محافظة على حده، لأن أرقامه غير دقيقة.
ورفض «ائتلاف أقباط مصر» في بيان آنذاك «فكر النظام في تهميش الاقباط وتقليص أعدادهم الحقيقية بشكل مستفز، بالأخص في توقيت إعداد الدستور، الذى سيتأثر بهذا العدد غير السليم بالمرة».
التجربة الثانية
في إحدى الكنائس الأخرى «الكبرى» (شمال شرق القاهرة)، لم يختلف الوضع عن نظيرتها الأولى، فرحب الكاهن أيضًا برغبتي في ملء استمارة عضوية بالكنيسة بعد معرفته من خلالي أن أسرتي نقلت إقامتها من المنطقة الأولى إلى هذه المنطقة منذ 8 أشهر، وهى معلومة صحيحة.
كان شكل الاستمارة مختلفا قليلًا عن السابقة، لكن محتواها يكاد يكون واحدًا، فتضمنت (العنوان - كاهن المنطقة - لقب الأسرة - نوع السكن - خادم الافتقاد - الاسم - الحالة الاجتماعية - الإيميل - الوظيفة - المؤهل - الجامعة - تاريخ زواج الأب والأم ونوعه - نوع العماد - الخدمة الكنسية - الأنشطة والمواهب - مواعيد العمل والعطلة الأسبوعية).
ملأتها بنفس معلومات الاستمارة الأولى، وكان الأمر بعيدًا أيضا عن أي أوراق رسمية، رغم أن هذه الكنيسة لا تعرفني ولا تعرف أسرتي.
وما فهمته أن هذه الكنيسة ضمن الكنائس التي بدأت منذ فترة طويلة في جمع الاستمارات.
سلمت الاستمارة وبذلك أصبح تعدادي أنا وأسرتي داخل كنيستين بمنطقتين مختلفتين.

استمارة العضوية الثانية
يستند العدد الذي يذكره الباباوات بالأساس إلى الأغلبية المسيحية في مصر، وهم الأقباط الأرثوذكس، أما الكاثوليك، فبحسب الأنبا يوحنا قلته، النائب البطريركى للأقباط الكاثوليك، «فليس لديهم أي إحصاء أو محاولات لمعرفة عددهم ولم يبلغوا الكنيسة الأرثوذكسية بأعداد».
بينما لم يعترض القس أندريه زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية، على قول البابا بأن العدد هو 15 مليونا، بل وأشار إلى أن الإنجيليين يمثلون منهم نحو 2 مليون، وعند سؤاله عن طريقة معرفته بذلك وعن وجود عضويات كنسية بالكنائس الإنجيلية؟ رد: «أكتر من كده ماعنديش إجابة».
وذلك في حين أن القس رفعت فكري، مسؤول الإعلام بسنودس النيل الإنجيلي (المجمع الأعلى للكنائس الإنجيلية)، قال: «أي أرقام تعلنها الكنيسة الأرثوذكسية غير صحيحة، ونحن في الكنيسة الإنجيلية ليس لدينا إحصاء ولا طريقة لمعرفة عددنا، فالمذاهب والطوائف في مصر كثيرة، وهناك تداخل بيننا فيصعب إحصاء العدد، لذلك هى مسؤولية الدولة وليست الكنيسة».
«ليس هناك حاجة لزيادة عدد الأقباط أو تقليله لأن حقوقهم التي نص عليها الدستور، وتمثيلهم في المناصب والبرلمان، غير مرتبط بعددهم». يرى إسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والاجتماعية، ذلك، ويوضح أن الكنيسة ربما تحتاج لوضع عدد تقريبي في بعض المحافظات كي تقول إن هناك منطقة بحاجة إلى كنيسة، لكن العضوية الكنسية -غير الموجودة في كل الكنائس- لا يمكن الاعتماد عليها أبدًا لإعلان عدد رسمي ودقيق للأقباط.

التجربة الثالثة
كنيسة ثالثة في منطقة أخرى بمحافظة الجيزة، لم أذهب إليها من قبل، جاءت معي هذه المرة صديقتي «المسلمة» على أنها مسيحية ونحن جيران في نفس البيت.
وهنا ادعيت أنني انتقلت مع أسرتي للسكن في هذه المنطقة، بينما ظل الوضع كسابقيه، حيث لم يشك الكاهن في الأمر، وملأ لي الاستمارة (ببيانات خاطئة) ولم يطلب أي مستندات، بل أعطى لصديقتي ورقة هي الأخرى.
سألته عن احتياجه لأي أوراق تثبت صحة البيانات، قال: «المهم علاقتكم بربنا وإنكم تيجوا الكنيسة، سيبك من الأوراق».
بررت استفساري بسبب معرفتي أن هذه الاستمارات تزيد من تعداد أسرتنا على الكنيسة بالتالي تحتاج لأوراق، فرد: «آه أنا عامل سيرفر من قريب، هزود عددكم، لو عايزة تجيبي ورق هاتيه لكن مش محتاجينه».

رسمة توضيحية
الأنبا مرقس، أسقف شبرا الخيمة، ومقرر اللجنة الإعلامية بالمجمع المقدس، قال: «عددنا 450 ألفا في شبرا الخيمة، والطريقة التي نتبعها هى استمارات العضوية الكنسية، التي يتم جمعها بواسطة الآباء الكهنة وترسل عندي في المطرانية عن طريق الإيميل ثم أضعها على الكمبيوتر، وهناك تسجيل إلكتروني أيضًا، وهذا غير مطبق في كل الكنائس».

صورة التسجيل الإلكتروني
لم تُرسل البيانات الموجودة عند الأنبا مرقس أو غيره من الأساقفة إلى الكاتدرائية، لكن يتم إبلاغ البابا بها تليفونيا أو عند جلسات الأساقفة معه، وتجمع كل إبراشية (منطقة) بياناتها بشكل مستقل، وسيستمر هذا الوضع حتى يأتي الأنبا بيتر، وهو أحد المسؤولين في لجنة المعلومات بالمجمع المقدس، من الولايات المتحدة ببرنامج جديد يضع نظامه حاليا، سوف يجمع قواعد البيانات الخاصة بكل الإبراشيات في «سيرفر» واحد بالكاتدرائية ليستطع البابا الاطلاع على الأرقام يوميا، بحسب ما أوضح الأنبا مرقس لـ«التحرير».
ويعترف الأنبا مرقس أن النظام الحالي لا يستطع أن يكون دقيقًا ويراعي أرقام المواليد والوفيات والمسافرين، التي تتغير في كل دقيقة، لكنه يصل لعدد تقريبي.
وعن طريقة التأكد من صحة البيانات المذكورة في أوراق العضوية، والتي لا تطلب أي أوراق ثبوتية، قال: «هذا الأمر متروك للكاهن الذي يجمع البيانات».
لكن الأنبا بنيامين، أسقف المنوفية، وفقًا لقوله، يحاول أن يواكب التغير في الأعداد، ويجري تحديثا للاستمارات سنويا، وأن يجعل الجميع يقوم بملء الاستمارات كي تعرف الكنيسة العدد.

أجرى «التحرير» استطلاعا سريعا لعدد الأقباط في بعض المحافظات بسؤال الأسقف المسؤول عن كل محافظة، وتوضح الخريطة التالية نتيجة ذلك.

في حين أن استطلاعا آخر، اعتمد على سؤال بعض الأقباط (70 شخصا بالغا من رجال وسيدات)، أظهر أن النسبة الأكبر منهم تعرف هذه الاستمارات، لكنها لم تشارك، وتبلغ كاهن المنطقة ببعض المعلومات شفهيا (28)، تليها نسبة أقل لا تعرفها من الأساس (20 شخصا)، ثم آخرون يملأونها غير مكتملة (15)، وكانت نسبة الأشخاص الذين يستوفون جميع البيانات هى الأقل (7).

عن هذا الأمر، ذكر طارق البشري، وهو قاض متقاعد، كان يتولى منصب نائب لرئيس مجلس الدولة، ومعروف بانتقاده للإدارة الكنسية، في كتاب «الدولة والكنيسة»: «أن الكنيسة لديها أجهزة تعداد بمعزل عن الأجهزة المركزية، بما يخالف قانون الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الذي يعتبر الإحصاء والتعداد من الأمور التي لا تمارسها إلا السلطة العامة باعتبارها شأنًا سياسيا، ويفرض عقابًا جنائيا على من يمارس إحصاء عاما بشكل أهلي وبغير ترخيص من الدولة، والكنيسة بذلك تمارس شأنا للأقباط لا يتعلق بالدين ولكنه يتعلق بالمعنى الجماعي الدنيوي».
واتفق صابر عمار، أستاذ القانون وعضو لجنة الإصلاح التشريعي، مع ذلك، وقال لـ«التحرير»: «المادة العاشرة من قانون جهاز التعبئة والإحصاء تحظر على أي جهة أو وزارة أو هيئة أو فرد أن ينشر بأي شكل من الأشكال بيانات أو إحصاءات أو معلومات إلا من خلال الجهاز، أما الإحصاءات التي هى خارج برامج الجهاز فلا يجوز نشرها إلا بموافقته، بالتالي هذا النص يمنع الكنيسة من ممارسة هذا الدور تمامًا.. وبدون تصريح هى ليس لها صفة جمع بيانات من المواطنين لأي غرض، وحتى وإن قامت بذلك من أجل التعداد فلا يمكنها أن تصل إلى رقم أقرب إلى الحقيقي، لأنها لا تملك سجلات وقوائم المواليد والوفيات وكشوف السفر، وهى مصادر يمتلكها جهاز التعبئة والإحصاء وحده».
رفض القس بولس حليم، المتحدث باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التعليق على كل ما ذكر سابقًا، عندما أرسلنا له رسالة بالأسئلة التالية:
- هل الكنيسة بإجراء تعداد داخلي وإعلان البابا للرقم رسميا تعتبر مخالفة لقانون الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الذي لا يسمح لأي جهة بعمل تعداد والإفصاح عن معلومات وبيانات؟
- ما ضوابط عمل نظام العضوية الكنسية؟ وكيف يتم التأكد من صحة البيانات المذكورة؟ وكيف تجمعها الكاتدرائية من الإبراشيات؟
فعقب: «ليس عندي رد الآن».
- تحفظنا على ذكر أسماء الكنائس أو المناطق الموجودة بها.
- تصميم الإنفوجراف: محمد مصطفى - أحمد نائل - مارينا ميلاد.
- رسومات: عمرو الصاوي.