أحمد دومة من داخل زنزانته: على هامش الغياب
تحرير: التحرير
١٨ يناير ٢٠١٧ - ٠٢:٠٣ م
نحتال بالذاكرة حينًا على اعتياد الغياب، وبالخيال أحيانا على انعدام التأثير، ونقاوم بالحب دائما أشواك الكراهية التي يزرعها «السجان» في طريقنا بإصراره على حرماننا من الحرية والحياة. ويزرعها «المسجون الآخر» بتعصبه الأعمى واعتداءاته المتكررة، وينشرها «آخرون»
نحتال بالذاكرة حينًا على اعتياد الغياب، وبالخيال أحيانا على انعدام التأثير، ونقاوم بالحب دائما أشواك الكراهية التي يزرعها «السجان» في طريقنا بإصراره على حرماننا من الحرية والحياة. ويزرعها «المسجون الآخر» بتعصبه الأعمى واعتداءاته المتكررة، وينشرها «آخرون» ـعلى حافة الجهل- بأكاذيب يطلقونها لاغتيالنا لمجرد أن وجودنا يزعجهم. لكنا موجودون، وسنبقى!
ثلاث سنين منذ رحلت، من دون فرصة لكلمة وداع أو ضمة طمأنة، أو حتى قبلة على الجبين من تلك التي تقول عني: «أنا هنا يا حبيبتي، فلا تقلقي...». ومن دون فرصة لحماتي -كعادتها قبل كل خروج- لتردد: «إنّ الذي فرضَ عليك القرآن لرادُّكَ إلى مَعادٍ».
كأنما ترش على قدمي «ماء العودة» عند عتبات البيت وهي تودعني، ومن دون فرصة لأسألهم كما تعودت: «عاوزين حاجة أجيبها وأنا راجع؟».
ثلاث سنين من الغياب والانتظار، تتأرجح أرواحنا صعودا عند الأمل، وهبوطا مع فقده... ولا معين على «الوجع» سوى اليقين بأننا نستحق شيئا أفضل. أن نبقى معا... في وطننا الوحيد، غير مضطرين إلى الهرب... أو الصمت... أو الفراق!
ثلاث سنين وهي تفتش عن خبر، تشتري كل حين ثوبا جديدا للقاء. تغسل كل مساء عطرها لأني قلت مرة: «اخلعي عنك العطر وابقي برائحتك أنت...». تستمع كل ليلة لـ«الست»، تقلّب صورنا معا، تغفو وهي تحتضنني فيها... تتحسّس حرفي الأول المدلّى حول عنقها، تثور، تتوعدني، توزع حكايتي على الناس، تستكمل صلاتنا وقت السحر... تغني لي، تطعم يمامتينا (جيفارا وجميلة)، تستعجل الأيام بين زيارتين، تتردد على أمكنتنا أو تهرب منها. تستثقل المناسبات أو تعد هديتي وتتوقع هديتها. تستدعي حكاياتنا، تبدع لتقصر المسافات، ترسم مستقبلنا، تعمل لتنفق علينا، تكلّم هذا... تضغط على آخر، وتلوم ثالثا. تلتمس وتنتفض، تنتظر... وتنتظر... وتنتظر، من دون ملل أو يأس. وأنا هنا ـفي زنزانتي الانفراديةـ عاجز، ممتنّ، وفخور... وواثق جدا في الغد القادم.
«تسبح عيناي بغير هدى
لتفتش عن طوق من نور
ـيخذلني صبح متأخرـ
لكني قبل بلوغ القاع...
يحملني أمل لا ينفد!».