تقول إحدى السيدات، التي لم تجد مقعدا، بسبب ازدحام المسرح عن آخره، لأحد المنظمين، بعد أن جلست، هي وابنتها الصغيرة، في الممر الضيق بين صفوف الكراسي، تقول "إحنا مش جمهور عمر دياب، إحنا بنحب يسرا عادي". تعتبر هذه السيدة أن المطربة يسرا الهواري، والتي ستظهر على هذا المسرح بعد قليل مع فرقتها، أن
تقول إحدى السيدات، التي لم تجد مقعدا، بسبب ازدحام المسرح عن آخره، لأحد المنظمين، بعد أن جلست، هي وابنتها الصغيرة، في الممر الضيق بين صفوف الكراسي، تقول "إحنا مش جمهور عمر دياب، إحنا بنحب يسرا عادي". تعتبر هذه السيدة أن المطربة يسرا الهواري، والتي ستظهر على هذا المسرح بعد قليل مع فرقتها، أن حبها لها لا يحتاج لتكليف، ولا مقدمات، ولا مسافة تفصلها عنها، ولا لشكل معين في الجلوس، إنه "البساط الأحمدي"، كما هو موجود في تفاصيل الحياة، هو نفسه تفرشه لتستمع ليسرا الهواري.

هذا الجسد النحيف التى ستظهر به، بعد قليل، يسرا الهواري، وهى تجرى من خلفية المسرح لمقدمته باتجاه الجمهور، كأنها تتعجل اللقاء، وبدون مقدمات، أو تمهيد لظهورها، حاملة معها آلة الأكورديون الثقيلة، والتي تصنع مفارقة مع هذا الجسد النحيف. ربما هذه المفارقة هي التي منحتها الشخصية: هذه الرقة المُدربة، وهذا الخجل الجريء.
***
بعد أغنيتين أو ثلاث، يطلق أحد المتفرجين، من مسافة قريبة؛ صيحة خجولة "بحبك يا يسرا"، ترد بخجل وعدم افتعال، "وأنا بحبك كمان". كلما تقدمت في هذه الجملة الصغيرة خفتَ صوتها وتعثر ليسكن فى النهاية، كأن هذا "الحب" فاجأها، فلم تجهز ردا محترفا لهذا النوع من عروض الحب التي تذاع على الهواء، وربما هو أيضا رد محترف لإخفاء الفرح الداخلي من دعوات الحب، غير المُلزمة، التي تأتي على الهواء.
***

تستوقفنى العديد من الجمل البسيطة والعميقة، في آن واحد، داخل هذا السياق الغنائي. جميعها تأتي من هذا النوع المعتدل والدافئ من المشاعر، قليل من الحزن مع قليل من الجرأة، مع قليل من المرح والأمل: "لكن بيَّنا حاجة بريحة الفراق" أو "بس كله يهون إذا بس فيه في البيت بلكونة محندقة" أو "لكن صحيح هتكون فضيحة لو يوم نسينا وبُسنا بعض في الشارع" أو "ببتسم من كتر حبي للعالم" أو "أحب أغيب وأسيب مكاني غريب" أو "وإن حتى ماجاش أدينا عملنا حسابنا ياناس" أو "عــلى الفـطار أربــع إيـديـن ودبلتـــين بيـصـحُّوا قـلبى كل ليلة فى المنام، وبـيكتـبولى بـلـون منَـور فزدقى على الهـوا الأسود وع الجفن اللى نام كلمة "سلام " أو "الدنيا أطول من الساعة اللي لازم أروَّح فيها" أو "يا أوتوبيس يا ماشي قدامي وعمّال تطلع عليَّه خرا" أو "كلنا بنام بليل ونقوم ناسيين" أو "يا قلبي لا تحزن كل الوجع بيفيد".
***
ينادي الجمهور "السور يايسرا" يقصدون أغنية "السور" التى اشتهرت بها أيام الثورة، وتحكي عن هذا الراجل الغلبان الذي يتبول على السور الذى يرمز للسلطة، وتقوم أيضا بحراسته، وبتعليته، لتمنع مرور الناس والحريات، ليأتي هذا الرجل الغلبان ليتبول عليه بحسن نية، أو بقصد، ليسخر من هذه السلطة ومناعتها. لم يأت هذا الطلب في الوقت المناسب، تجاهلته، كانت تريد أن تؤخر هذه الأغنية الأثيرة للنهاية، للقطة الأخيرة التي يحتفظ بها الممثل ليترك أكبر الأثر بعد ذهابه. وبالفعل قبل النهاية بقليل تغني الأغنية ويشتعل المسرح وتضطر لأن تعيدها مرتين.
***
يتحول هذا التصفيق والإعجاب ولمعة العيون، إلى هواء نقي يدخل رئة الفنان، ليجعله يتنفس بقوة مضاعفة في هذه الغرفة الإضافية التي لا يغادرها الجمهور طوال حياة الفنان.
***

هذه الفتاة الخجول التي ما زالت تضع وردة بيضاء على شعرها وتجلس على طرف الكرسي والأكورديون على صدرها، كدرع حماية، أو كرئة جديدة يدخل ويخرج منها هواء مختلف. إنها إحدى نتاجات الثورة التى جعلتها تخرج من غرفتها لهذه المساحة الواسعة المكتظة بالمحبين والمراهقين. تجلس على طرف الكرسي، كأنها تجلس في غرفة الموسيقى في المدرسة، بخجل وقدمين مضمومتين. ربما لأنها لم تتعود أن تشغل كل الحيز المتاح لها، تكتفي بطرف بعيد منه، تفضلا أو تواضعا.
تجلس على أطراف الكرسي، كمن يسير تماما على أطراف أصابعه. أغنياتها أيضا تسير على أطراف أصابعها، بهدوء، ولا تخدش أحدا في العمق، ولا تكسر قانونا هاما في الطريق، وتمس من بعيد، بدون أن تغوص في الحدة، حتى ولو كانت تغني أغاني ثورية مثل أغنية "السور" المشهورة، أو الأتوبيس الذى يضخ خراء في أنوف العابرين ووجوههم. إنها حدة الخجولين، حدة مؤدبة، وأيضا جمهورها له هذا الطابع المؤدب المرح.
***
في إحدى الأغنيات التى كان يؤديها معها أحد رفقاء رحلتها، وهو الشاعر سلام يسري، ولكنه لم يكن موجودا اليوم، فتطلب من الحضور أن يشاركها أحدهم/ إحداهن الغناء، فتنسل فتاة اسمها "عنان" من بين المتحلقين أمامها على الأرض لتصعد بجوارها على المسرح. تمسك "عنان" الميكرفون وتدخل في حالة من البهجة طوال زمن الأغنية، ثم تعود الفتاة بعدها وتقطع المسافة العكسية الصغيرة للدنيا الطبيعية التى جاءت منها، لترتمي وسط صاحباتها وتتلقى منهن التهاني والقبل.
***
في أغاني يسرا الهواري هناك رغبة لنقل روح وصورة الشارع، مشاهد أثيرة من الحياة اليومية، لها طرافتها، وخصوصيتها، وربما هذه الروح المنقولة من الشارع هي امتداد لشوارع الثورة ولكن بعد أن انفض عنها الناس وبقيت بها الحياة العادية بلحظات دفئها السيال وخلودها.
***
هناك بساطة متعمدة في اختيار الكلمات، جمل وصور عابرة، ومتاحة على ألسنة الناس، كأنه كلام عادي دخل في شكل أغنية. حتى الإيقاع المصاحب لأغنياتها ليس ثقيلا على الأذن، له نفس خفة الكلام. الكلام هو الذي يقود اللحن، ويسحبه لسطح هادئ.
لا تتصنع يسرا، أو تدَّعي حرفة الطرب، بل تؤدي كلمات أغانيها امتدادًا للكلام العادي في الحياة، ولكن بخلفية موسيقية، كأنه احتفال، عرض مسرحي غنائي، بدون نص، ينقصه فقط بعض الدقة وحساب الأدوار.
لا تضع يسرا جمهورها تحت سطوة أغانيها، أو تحت سطوة معان محددة تلقنها لهم، أو تحت سطوة أدائها، بل تضعهم داخل هذا السياق المسرحي، والمرتجل، الذي يندر فيه التمثلات العميقة، لتخرج من العرض بحالة لطيفة، بهواء مختلف نفض عنك تراب المدن ودخانها.
***
هذه المسافة الملغية بينها وبين جمهورها، الذى يحوطها؛ مسافة لها وجهان: هى مسافة حميمية، وأيضا مسافة ابتلاع. يبدو أن الفنان الذي يسعى للإلغاء النظرى لهذه المسافة، بينه وبين جمهوره، يحتاج للمزيد من الذكاء، والتجريب، اللذين سيطوران هذه المسافة الملغية، باتجاه النضج والحميمية وليس الابتلاع وإلغاء الشخصية الفنية.
لكي تظل هذه المسافة متحركة وفاعلة، ربما من المهم أن تكون الكلمات والأداء على المسرح، له تصميم ما سابق، تصوُّر يخرجه من عاديته، وأيضا لا يضعه في أكلاشيه مقدس. ربما ينتج عن هذا نوع من العروض الغنائية الممسرحة، والمرتجلة بدقة، ربما يفتح هذا طريقا جديدا أمام هذه التجربة الخاصة والمرحة والحميمة.
...........................................