عاش الروائي الطبيب أحمد خالد توفيق عقوده الخمسة على هامش المدينة، بعيدًا عن العاصمة، منعزلًا عن ضجيج العالم الواسع المزدحم بالأضواء، حيث اختار أن يستمر وحده بعيدًا عن المركز، هناك في مدينة طنطا يقرأ ويترجم ويكتب بغزارة المياه المنهمرة من شلال لا يتوقف ويُحاضِر في الجامعة، ويسخر من كل شيء حتى
عاش الروائي الطبيب أحمد خالد توفيق عقوده الخمسة على هامش المدينة، بعيدًا عن العاصمة، منعزلًا عن ضجيج العالم الواسع المزدحم بالأضواء، حيث اختار أن يستمر وحده بعيدًا عن المركز، هناك في مدينة طنطا يقرأ ويترجم ويكتب بغزارة المياه المنهمرة من شلال لا يتوقف ويُحاضِر في الجامعة، ويسخر من كل شيء حتى من نفسه، سخريته التي قدمت لأجيال طويلة كترياق كي تقاوم الحياة التي تسخر منا باستمرار.. ابتسامة لم نكن نعلم أنها ستسخر منه في منتصف الرحلة.
كان خبر الوفاة والرحيل القادم من غرفة عمليات مستشفى عين شمس التخصصي في قلب العاصمة المصرية مفاجئًا وصادمًا في نفوس الجميع، رحل أحمد خالد توفيق في هدوء مثل حياته البسيطة الهادئة التي عاشها على الهامش (مكانيًا) في وسط الدلتا، ولكن مشهد الجنازة كان مهيبًا ومؤثرًا، فالشباب هناك كانوا يملأون الشوارع والطرقات إلى المقابر يتسارعون نحو حمل نعشه، لرد الجميل إليه الجميع كان يبكيه وينعيه ويترحم عليه من مناطق متفرقة وتوجهات سياسية وفكرية متباينة حتى من لم يكن من مريديه أو قرائه، ترحم عليه وألقى عليه نظرة الوداع الأخيرة التي كانت تخترق الزجاج الفامية لسيارة تكريم الموتى، التي تنقله إلى مثواه الأخير، ومشاعر حزن حقيقية كانت أقرب إلى حفلة تكريم شعبية منها إلى وداع مرير.. مشهد صعب قلما نراه فى جنازة مسئول أو وزير.

الحشد الشبابي
في لحظات النهاية نعاه الجميع كأنه أحد أقاربهم، واحتفوا به على صفحاتهم وتذكروا كتاباته وحضروا جنازته من محافظات مختلفة تبتعد عن مدينته طنطا بمسافات طويلة، وسط غياب من أي مسئول بالدولة الذين انشغل غالبيتهم في نتيجة الانتخابات الرئاسية ومظاهر الاحتفال بها.
الموت لا يقتل الرموز
في فترة ما من تاريخ مصر كان الجميع يحتفي ويستمتع بفن أم كلثوم وأدب توفيق الحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم من الأفذاذ والعباقرة، الذين نالوا ما يستحقون من الشهرة في حياتهم وبعد رحيلهم.. فالموت لا يقتل الرموز، لكن يزيدهم ألقًا وبريقًا وسكنًا في الذاكرة.
في ذكرى وفاتها الماضية قامت بريطانيا بإصدار عملة ورقية فئة العشرة جنيهات منحوتًا عليها صورة الأديبة الإنجليزية الشهيرة جاين أوستن (1817 - 1775)، التي اشتهرت بست روايات رئيسية توضح وتنقد وتعلق على حياة طبقة ملاك الأراضي البريطانيين، ومن أبرز أعمالها رواية «كبرياء وهوى» كبرياء وتحامل.
كان الاحتفاء الرسمي والحفاوة البالغة بالأديبة الإنجليزية أمرًا اعتياديًا كثيرًا ما تكرر مع كتاب وأدباء آخرين، وكان تكريم أوستن بسبب مرور مائتي عام على ذكرى وفاتها، وكتبوا أسفلها عبارة «لا توجد متعة كالقراءة»، مائتا عام وما زالت صاحبة رواية «كبرياء» حية، مائتا عامٍ وما زالت بلادها تتذكرها مثلما فعلت مع ويليام شكسبير وتشارلز ديكنز من قبل وحولت منازلهما إلى متاحف قومية ومزارات ثقافية خالدة.
صمتُ اعتيادي
هنا في مصر الوضع معكوس والآية مقلوبة، و«ثمة موت يدركك وأنت حي» كما كتب مرارًا صاحب نوبل نجيب محفوظ، وموت متكرر بعد الوفاة، وفي الغرف المغلقة صمت رسمي مُطبق أصبح معتادًا، وتحول تجاهل الثقافة في حياته إلى ازدراء وتحريض وإرهاب ضد الدولة بعد موته لكل مَن يفكر ويكتب ويُبدع، أو يُحرِض على التفكير فذلك هو السقوط الكبير.
«إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى.. الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء».. يقول الشاعر والأديب السوري الكبير محمد الماغوط، والصمت موت والخوف والجمود وازدراء الإبداع موت أكبر.

ويبقى تساؤل أخير طرحه عدد من الأدباء والمثقفين المصريين: متى تُكرِم الدولة رموزها وأدباءها وقوتها الناعمة الذين أسهموا عبر سنوات طويلة في تشكيل وعي ووجدان وثقافة أجيال كاملة من خلال قصصهم وكتبهم وأعمالهم التي لن تموت، ولماذا لا يتم تدريس كتبهم لطلبة المدارس والجامعات؟ أو تُخصص وزارة الثقافة باسمهم جائزة تُمنح سنويًا لأدب الشباب باسم «جائزة العرّاب» تخليدًا لذكرى الروائي الطبيب أحمد خالد توفيق، أو يتم إنشاء متحف ثقافي متكامل بالتعاون مع دور النشر يضم أعمالهم الكاملة وصورهم النادرة ونصوصهم الأدبية ورسوماتهم وأعمالهم الفنية للترويج لقوة مصر الناعمة، ويكون مزارًا ثقافيًا ونافذة مفتوحة على العالم الأوسع الممتد من إيطاليا إلى إفريقيا وأمريكا وآسيا.
متحف جمع العالم على خشبة المسرح
من الشرق إلى الغرب تزداد الهوة اتساعًا بين العالمين، في الوقت الذي تتجاهل فيه جهات رسمية بالدولة تكريم بعض المثقفين والكتاب الذين أثروا عقول أجيال كاملة تقيم بريطانيا متحف «تيت مودرن» للفن الحديث والمعاصر بالعاصمة البريطانية لندن، لعرض أعمال فنية مختلفة من منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب أمريكا وآسيا وفي الجوار يفتح المتحف البريطاني أبوابه أمام الزائرين ليجمع العالم على خشبة المسرح ويخلد أسماء الأدباء والكتاب والفنانين البارزين عبر المعارض الدائمة التي يقيمها، والتي تمنح الزائرين فرصة فريدة للتعرف على تاريخ بزوغ دور لندن كمدينة عالمية.
هناك يتم إبراز الرؤية الإبداعية التي بلورها الكتاب والأدباء المؤثرين في وجدان الشباب وعلى رأسهم الأديب الإنجليزي الشهير وليام شكسبير في أعماله ومسرحياته، حيث يتم بث الروح في هذه الرؤية من خلال المقتنيات المتحفية والوسائط الرقمية والعروض الفنية، لإبراز الصلات بين المقتنيات ونصوص شكسبير والعروض المسرحية ورؤية سكان لندن ونظرتهم إلى العالَم في حقبة نشوء مختلف أوجه الحداثة، ومنها التبادل العالمي على الصعيدين التجاري والثقافي.