هم كمِلحِ الأرض يُصرون على الصيام رغم المشقة، أجبرتهم ظروف العمل اليدوي على الشقاء والعمل في قلب مهن موت، بلا وسائل حماية أو سلامة مهنية، هؤلاء هم الشقيانين في رمضان
سحابة غائمة تغطي جنبات الطريق الزراعي العامر بأشجار الموز و«غيطان» الذرة، ودخان كثيف وضباب يعوق الرؤية أمام سائقي السيارات، وظلام دامس يخيم على المكان في عز النهار، ورائحة خانقة لا يتحملها المارة الذين يكتمون أنفاسهم حتى يمرّوا، وقطع خشبية عدّة متراصّة في الجوار تنتظر دورها في الاحتراق، وأصوات النار المنبعثة من حرق الخشب تُسمع من بعيد.. هنا «مكامير الفحم» في قرية أنشاص الرمل بالشرقية، لا صوت يعلو فوق صوت الدخان والنار وحركة العمال التي لا تتوقف، أحدهم يحمل قطع الخشب المتناثرة إلى «المكمورة» ويتسلمها منه عامل آخر يتولى مهمة «رصّ» الخشب.
أكثر من 3500 مكمورة فحم، يعمل بها أكثر من 100 ألف عامل منتشرة في المحافظات المصرية، حسب تقارير وزارة البيئة، ويتركز معظمها في محافظات الدلتا، وفي مقدمتها الغربية والمنوفية والشرقية. القاهرة الكبرى وحدها تمتلك 600 مكمورة أغلبها لا يتوافق والاشتراطات والمواصفات البيئية، وتقع فى مناطق ذات كثافة سكانية
أكثر من 3500 مكمورة فحم، يعمل بها أكثر من 100 ألف عامل منتشرة في المحافظات المصرية، حسب تقارير وزارة البيئة، ويتركز معظمها في محافظات الدلتا، وفي مقدمتها الغربية والمنوفية والشرقية. القاهرة الكبرى وحدها تمتلك 600 مكمورة أغلبها لا يتوافق والاشتراطات والمواصفات البيئية، وتقع فى مناطق ذات كثافة سكانية عالية، الأمر الذى يعرض السكان والأطفال لمخاطر صحية عدة، ويصل متوسط إنتاج المكمورة الواحدة إلى نحو 10 أطنان من الفحم النباتى شهريًّا، حسب تقرير جهاز التعبئة العامة والإحصاء لعام 2013.
يقوم فريق آخر بالتغطية ووضع أكوام القش والصاج فوق قطع الخشب المتراصّة بإحكام، ثم تغطيتها بالتراب المحمي «التِرس» لمنع أي فتحات للتهوية، ويقوم الصنايعي بإشعال النيران في «المكمور» ثم يُترك على هذه الحال لمدة يومين أو ثلاثة يتابعها «الفحّام» بالمياه لتبريدها واستخراج الفحم.

أول ما يلفت انتباهك عند دخول «المكمورة» هو سحابة الدخان الكثيفة التي تغطي أرجاء المكان، وتراب الفحم المحترق الذي يسكن الأرضية ويُعاد استخدامه مرارًا وأكوام الخشب التي تملأ الساحة، وعامل خمسيني تغلب على ملامحه السُمرة والشقاء تشققت يديه من خشونة العمل في الفحم ونوبات السعال التي لا تتوقف من الألم الحاد في صدره نتيجة عدم استعماله أي كمامات واقية على فمه.
قبل 45 عامًا جاء محمد بدران من صعيد مصر إلى شمال القاهرة ليقيم في مدينة السادات بالمنوفية، ليبحث عن فرصة عمل يقتات منها وبناته الاثنتين وولده الصغير، فلم يجد أمامه وظيفة غير تقطيع الخشب على الطرق، وبيعها لتجار الورش والمصانع والفحم.
حفّار النار
«من قلة الشغل اخترت الشغلانة السودة دي».. بنبرة حزينة وشقاء السنين على وجهه وعينيه الممزوجة باللون الأحمر من طول السهر يتذكر العامل الأسيوطي الذي يُناديه الجميع بـ«الحفّار» أو «الفحّام» بدايات دخوله تلك المهنة الشاقة في 2008، بعد أن فاض به الكيل وترك مهمته الأولى كـ«خشّاب» بعد أن ادخر كمية كبيرة من التقطيع على الطرق (3 أطنان خشب)، وقرر استئجار «مكمورة» لمدة أسبوع تربح من ورائها و«رجله» دخلت في الصنعة.

طريق طويل مفروش بالشقاء، وصناعة تؤدي إلى الموت وصعوبات قاسية في كل مراحلها المريرة وسط تحديات يومية لا تتوقف عن الاشتعال وإحراق ما تبقى من آمال له في الراحة، تحمل كل ذلك وتخطاها بمساعدة شقيقه الأصغر الذي ارتضى العمل معه منذ اليوم الأول، ولكن تجهيز ابنته الكبرى للزواج ومرض والدتها ثم موتها المفاجئ كان له أثر عكسي في رحلته مع الفحم، أو كما يقول بدران: «الواقعتين دول زعلوني جامد وفضلت قاعد سنتين في البيت قرفان تمامًا من الشغل».
رحلة الشقاء
من كثرة التشققات التي سكنت كلتا يديه صبغهما «الفحام» بالحناء حتى يقوى على استكمال عمله الدائم مع الدخان المتصاعد باستمرار والتراب الساخن الذي يترك تأثيره السيئ على صدره، الذي أصبح مثل «الفرخة اللي واخدة برد»، ويؤثر أيضًا على قدرته على التبول ويصيبه بحرقان دائم، ثم يستدرك من آن لآخر: «الدخان مابيزعلنيش لأني خلاص اتعودت عليه» .
ينبعث الدخان بغزارة من قبل «مكامير الفحم» النائمة بخلاف المكمورة الواقفة أو ما يسمونها بـ «القرطاس» و«القُمع» المزودة بفتحات تهوية من الأسفل، ويعرف بدران طريقة التعامل مع سحابة الدخان التي تنبعث من الفحم عبر تغطيته بالتراب أو رشه بخرطوم المياه الذي يُبرد به «مكمور الفحم» في أثناء عملية الاحتراق وتصاعد الأدخنة الكثيفة بدرجة تغلق الطريق الزراعي، ويُخيم الضباب على المكان ما يتسبب في وقوع حوادث قاتلة.
5 أيام «تفحيم»

تستغرق عملية «التفحيم» وقتًا طويلًا من 3 إلى 5 أيام، حسب كمية الخشب المستخدمة، وتبدأ برصّ الخشب في يوم وتغطيته في يوم آخر واحتراقه في يومين، وفي اليوم الخامس يجري التبريد عبر خرطوم طويل موصول بـ«طلمبة» مياه تعمل بموتور كهربائي، وبعد أن يُطفأ الفحم تتم تغطيته بـ«مشمع» ثم يُترك لمدة يوم أو أكثر حتى يجف تمامًا.
بعد ذلك تأتي المرحلة الأصعب في هز الفحم وإزالة بقايا التراب العالقة فيه وتحمل كل ذرات التراب المنبعثة منه، وكل ذلك مقابل 10 جنيهات فقط على كل جوال فحم، معترضًا: «بتدبحني في شيكارة هز ورص وولعة وتعبئة وحمولة بـ10 جنيه».
أما التراب المتبقي من عملية التفحيم فيسمى «تِرس»، ويستخدم في الشوايات لشوي الذرة، وتُباع الشيكارة بـ35 جنيها والكيلو الواحد بـ10 جنيهات، وإحنا بنحاسب شيكارة الفحم على 10 جنيهات وبنرصّ 3 قراطيس (600 شيكارة) في يومين ونصف ويومين تغطية و3 أيام ولعه، والقرطاس يستغرق هزًّا 3 أيام.

رزق بعد نار
«رزق بعد نار وحفر في قلب جهنم».. يقول الفحّام الخمسيني الذي كان لا يتوقف عن السعال أثناء الحديث معه وجسده يغرق في العرق، وتحولت ملابسه البيضاء إلى اللون الأسود الفاحم بعد أن اصطبغت بلون الفحم، وصارت مثل الخرقة البالية التي لا تصلح لأي شيء، ولكنه يُصر على غسيلها وارتدائها من جديد.
ينقل «الفحام» جزءًا من معاناته اليومية مع الخشب، ويتذكر واقعة مريرة تعرض لها بعد خروجه من الجيش عام 2002 حين كان يعمل في تقطيع الخشب، وكان يمارس مهمته بشكل طبيعي في منطقة السنطة بالغربية و«بيضرب الشجرة راح واقع على الأرض من فوق عود كافور طوله 14 مترا، فالبلطة لبست في ضهري وحصل لي تمزق في الأربطة و8 غرز في الظهر».

ناقوس الخطر
أفران الفحم المطورة التي طرحتها الحكومة تهدد حياة آلاف العاملين، حسب تعبيرهم، تخصص مبان محددة لها وتعمل بالغاز الطبيعي، وهي ذات خطورة بالغة وتهدد كذلك المباني بالتصدع ويخرج الفحم من غير تراب، رغم أنها نظيفة من الخارج، ولكن «تيجي تولعها ماتولعش»، والمكمورة هنا «زيتها منها فيها».

يفاجئ عمال الفحم من آن لآخر بمفتشي البيئة الذين يحذرونهم «لو المكمورة زاد دخانها هاجيب لكم المطافئ»، ويتخطى الأمر تلك التحذيرات بأن يجري تحرير محضر لصاحب «المكمورة» إذا لم يتم تنفيذ تلك التعليمات خلال الفترة المطلوبة.
«جابت تُراب»
70 يومًا كاملة تتوقف «مكامير الفحم» عن العمل بأوامر وزارة البيئة منذ منتصف أكتوبر حتى نهاية العام، يتنقل خلالها عمال الفحم إلى الخروج بالفأس والبُلط والمنشار بين الغيطان والأراضي الزراعية لتقطيع الخشب من أجل توفير قوت يومهم.

غالبية أهالي أنشاص الرمل بالشرقية والقرى الأخرى المجاورة يعملون في الخشب منذ سنوات طويلة هو مصدر رزقهم الوحيد، في النهار يقطعون الخشب وفي ساعات الليل يكمرونه وتستمر المعاناة ولسان حالهم «العملية جابت تراب، مالناش راتب ثابت ولا تأمينات.. هناكل منين وندخل بيتنا قرش إزاي، مافيش فدان ولا قيراطين ملك ولا بيت نتاوى فيه وقاعدين في بيوت حِكْر أملاك دولة.. إرحمونا».